النّسق الحكائيّ التّراثيّ.. "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ نموذجاً (2-2)

 أ.د/ يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني وأكاديمي بجامعة الإمارات

 

ثالثاً ـ شهريار بطل الحكاية الكبرى:

إنّ كل الحكايات الصغرى السابقة، الممتدة منها، والمغلقة، والمتصلة بعد انقطاع، تدور في إطار حكاية كبرى هي حكاية شهريار، وتسير معها بشكل متوازٍ، بل يمكن القول: إن هذه الحكايات هي التي كانت تقود شهريار في تحوّله من سفّاح إلى تائه في بلاد الله الواسعة، تحت نظر كل من شهرزاد الحذرة تجاه هذا التحول، ووالدها دندان الوزير الذي كان رجاؤه في التحوّل يغلب على حذره.

تبدأ حكاية شهريار من حالة تغيُّرٍ، يعبّر عنها بزواجه من شهرزاد، في جو من الغموض السحري؛ إذ يطفئ شهريار القنديل، قبل أن يعلن لأبيها الوزير دندان: "اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لنا"، ص6، وإذ يحمل دندان البشرى إلى ابنته تقول:

"نجوتُ من المصير الدامي برحمة من ربنا..

فغمغم شاكراً، فقالت بمرارة: ليرحم الله العذارى البريئات"، ص7.

ها هنا تبدو شهرزاد، مثل أبيها، غير واثقة بهذا التغيّر، وإن كانت ترجوه، كما أنّ أباها يحافظ على مسافة الولاء اللازمة، خوفاً من غضب محتمل لا تُضمن عواقبه. في حوار بين شهريار ودندان يعبّر الأخير عن تمسكه بمسافة ذلك الولاء المطلق الذي يمنعه حتى من إبداء رأيه، حتى في الأمور التي تخص مشاعره؛ يسأله شهريار: "ـ أتكره الظلام؟"، ص70، فيجيب الوزير "ـ إني أحبّ ما يحبّ مولاي"، ص70.

ويمكن رصد التغيّر التدريجي في شخصية شهريار في قضية جمصة البلطي التي تذهب بجمصة إلى النطع، فيقول، (بعد سماع حكاية العفاريت حوله وحول صنعان الجمالي متذكرا حكايات شهرزاد) لوزيره:

"الحق أنني أوشكت أن أكتفي بسجن جمصة البلطي!

ثم بحنق: ولكنني أعدمته جزاء وقاحته في مخاطبتي"، ص71.

وثمّة تغيّر آخر يتجلّى في تنكّره، وتجوّله المستمر مع وزيره وسيّافه وسط العامة، لسماع حكاياتهم، والاطلاع على أحوالهم؛ وإذ يسمع متنكّراً حكاية نور الدين مع حبيبته المجهولة، يعده بخير قادم، وإذ يروي الحكاية لشهرزاد عن تلك المجهولة (التي هي دنيا زاد/ أختها)، ترتعد فرائصها خوفاً، على الرغم من تعهده للشاب بتحقيق حلمه:

"إني خائفة على دنيا زاد وعلى نفسي، لا أمان للسفاك"، ص130.

وفي أثناء محاكمة عجر الحلاق يتدخل شهريار لإنقاذه من الموت، بعد أن يحقق في الأمر، ويعزل يوسف الطاهر وحسام الفقي، ويجلد حسن العطار وجليل البزاز وفاضل صنعان؛ وإذ يجلس دندان إلى ابنته شهرزاد يؤكّد لها، برجاء يحمله في نفسه، أنّ شهريار قد تغيّر:

"ـ لقد تغيّر السلطان، وتخلّق منه شخص جديد مليء بالتقوى والعدل.

ولكن شهرزاد قالت:

ـ ما زال جانب منه غير مأمون، وما زالت يداه ملوثتين بدماء الأبرياء"، ص168.

إنّ شهرزاد لا تريد أن تصّدق هذا التغيّر، لأنها عاصرت زوجها، وشهدت عن قرب، على يديه الملوثتين بالدماء، وعانت رعب نهاية حكايتها، ولكنّ الوزير يلمس ذلك التغير عن كثب، في خلال جولاته الليلية معه، وفي مرة يسمعان صوت قوت القلوب، ويسألانها عن سرها فلا تجيب، فيحقق دندان بالأمر، ويصل إلى سرّ الجريمة التي نفذها المعين بن ساوى وزوجة الزيتي سليمان، وكادت تودي بحياتها:

"ولما تلقى شهريار الحقيقة من وزيره غضب وهتف:

ـ لا بدّ من ضرب عنقي المعين وجميلة زوجة الزيني..

غير أن غضبه فتر فجأة.. لعله تذكر هروبه ليلاً والإثم الذي يطارده، أو لعله تذكّر أن الزيني والمعين كانا من خيرة الرجال"، 203.

ويلاحظ هنا للمرة الأولى أنّ شهريار تراجع عن قراره، بعد أن تردد في قرار سابق، وفي حكاية معروف الإسكافي يتطور الأمر إلى الانسياق وراء رأي العامة، وهذا أمر جديد تماماً عليه وعلى العامة في آن؛ فحين يساق معروف إلى النطع بعد اعترافاته حول كذبة خاتم سليمان، يتجمهر الناس ويطالبون ببراءته، فيعفو عنه، ويجعله حاكماً على المدينة: "صاح المنادي: جرت مشيئة السلطان بنقل الحاكم إلى رياسة حي آخر على أن يقلّد ولاية الحي معروف الإسكافي"، ص266.

ونلاحظ مثل هذا التغيّر أيضاً في حكاية السلطان المزيف؛ إذ يفاجَأ متجولو الليل الثلاثة بأنهم أمام محاكمة فيها شهريار مزيف، يُبّرَّأ فيها علاء الدين أبو الشامات من تهمة قتل قمر الزمان زوجة الفضل بن خاقان، ثم يوقف شهريار الأصلي المحاكمة الهزلية، ويسمع قصة السلطان المزيف إبراهيم السقاء، ويكلف وزيره دندان بإعادة التحقيق في القضية، فيسفر ذلك عن إدانة المعين بن ساوى ودرويش عمران وحبظلم بظاظا.

وفي تغيّر نهائي غير مفاجئ يطلب شهريار من زوجته شهريار أن تهتم بمستقبل ابنها، ويطمئنها، قائلاً: "لا تخافي لقد عاشرتِ رجلاً غارقاً في دماء الشهداء"، ص279. ثم  يتجه إلى اللامكان، هائماً على وجهه، ليرى نفسه في مدينة سحرية، تجسّد فكرة المدينة الفاضلة التي بحث عنها ابن فطومة، وهو يلبس "سروالاً من الحرير الدمشقي، وعباءة بغدادية وعمامة خراسانية ونعلاً مصرياً، ص287. فتسأله صبية على البوابة:

"ـ من أنت؟

فأجاب بحيرة:

ـ شهريار.

ـ ما صناعتك؟

ـ هارب من ماضيه"، ص287.

في هذه المدينة التي نبتت خارج الزمن المألوف تزوج شهريارُ الملكةَ، التي سألها ذات يوم:

"ـ متى يكون لنا وليد؟

فتساءلت في ذهول:

ـ أتفكر في ذلك ولما يمض على زواجنا إلا مئة عام؟"، ص290.

وكان يكفي للخروج من هذه الغرائبية أن يدير المفتاح في البوابة في غفلة من الخادمات؛ ليجد نفسه من جديد في صحراء الضياع، وليؤكّد في مقولة عبد الله العاقل النهائية:

"من غيرة الحق أن لم يجعل لأحد طريقاً، ولم يؤيس أحداً من الوصول إليه، وترك الخلق في مفاوز التحير يركضون، وفي بحار الظن يغرقون"، ص293.

 

 

رابعاً ـ في العجائبية الحكائية:

العجائبية سمة بارزة الحضور في رواية "ليالي ألف ليلة"، وتقوم فيها الأحداث الخارقة لناموس الطبيعة بدور أساسي، بفعل العفاريت، من آمن منهم ومن كفر، وتظهر في ثلاث مستويات: مستوى تتدخل فيه العفاريت فيشعر المرء أنه أمام فعل غريب لا يتمكن من فهمه، ومستوى تتدخل فيه العفاريت بمعرفة من الشخصية ذاتها دون سواها، ومستوى تقوم فيه العفاريت بالفعل القصصي بشكل مباشر.

  1. فمن المستوى الأول يمكن أن نشير إلى حكاية معروف الإسكافي الذي التهم ذات ليلة من المنزول أكثر من طاقته، ثم قال لرواد المقهى: وجدت خاتم سليمان فسخروا منه، فأمر الخاتم أن يرتفع عن الأرض فارتفع ـ بتأثير سخربوط ـ وخاف بينما ذهل الناس:

"انقطع فجأة عن الكلام.. معروف نفسه اجتاحه رعب غريب.. شعر بقوة تقتلعه من مجلسه، ومضى يعلو ببطء وثبات حتى وقف جميع الرواد فزعين ذهلين.. واتجه نحو باب المقهى وخرج منه وهو يصيح: أغيثوني"، ص251.

غير أنه عندما عاد إلى البيت، صدق حكاية الخاتم دون أن يدرك أثر العفريت:

"ـ يا خاتم سليمان ارفعني ذراعاً واحدة فوق الأرض!!

انتظر في لهفة وإشفاق، ولكن لم يحدث شيء (...).

ـ يا خاتم سليمان ايتني بصينية فريك بالحمام.

لم ير إلا خنفساء تزحف فوق طرف الحصيرة المتهرّئة"، ص251.

ولكن العفريت، في لقاء معروف الإسكافي مع شهريار، يرفعه عن الأرض، على الرغم من يأسه، وخوفه من انكشاف كذبه:

"ـ ارتفع يا جسدي حتى تمس عمامتي السقف..

وأغمض عينيه مستسلماً لمصيره الأسود، ولما لم يحدث شيء هتف من قلب معذّب "الرحمة يا مولاي"، وقبل أن ينبس بكلمة أخرى دبت في قلبه حيوية ملهمة فخف وزنه وتلاشى خوفه.. وإذا بالقوة المجهولة ترتفع به في هدوء ووقار وهو متربع على لا شيء"، ص261.

غير أن سخربوط يأمر معروف في مقابل ذلك أن يقتل الشيخ عبد الله البلخي وعبد الله المجنون/ جمصة البلطي، فيرفض معروف الاستسلام لسطوته، ويعترف بكل ما جرى معه، ويدرك الناس أن النطع ينتظره، فيثورون مطالبين ببراءته؛ ليستجيب شهريار ويعفو عنه، ويجعله حاكما على الحي.

ها هنا في بداية الحكاية يتحكم سخربوط بمعروف دون إعلامه، وكذلك في حكاية (نور الدين ودنيا زاد) يتدخل كل من سخربوط وزرمباحة، ليجعلا ليلتهما ليلة عرس حقيقية، دون أن يستوعبا الظروف التي قادت إليها:

  • "فتحت دنيا زاد عينيها وقد نضحت الستارة بالضياء.. وجدت نفسها مغموسة في ذكريات النبع المبارك.. شفتاها نديتان بالقبل.. أذناها ثملتان بأعذب الكلمات. خيالها مفعم بحرارة التنهدات. العناق لم يبرح جسدها، ولا الحنان.. هذه هي الصباحية.. ولكن.. سرعان..؟ سرعان ما هبت عليها رياح الوعي الصارمة"، ص104.
  • "أما صحوة نور الدين فكانت غاضبة ثائرة، عندما رأى حجرة نومه البسيطة بمسكنه القائم فوق دكانه بحي العطور.. أكان حلماً؟.. لكنه حلم عجيب له قوة الحقيقة وثقلها.. ها هي العروس بجمالها حقيقة لا يمكن أن تنسى أو تمحى من القلب"، ص105.
  1. أما في المستوى الثاني فيعلن العفريت عن نفسه، دون أن يراه أحد إلا الشخص المقصود، ومن ذلك ما جرى مع جمصة البلطي/ كبير الشرطة عندما يخرج له سنجام من القارب، فيعود إلى العبد الذي يرافقه عند الشاطئ ويسأله:

"ـ أكنتَ تنظر نحوي وأنا في القارب؟

ـ طيلة الوقت يا مولاي..

ـ ماذا رأيت؟ا

ـ رأيتك وأنت ترمي الشبكة، وأنت تنتظر، وأنت تجذبها؛ لذلك أدهشني أن تراها فارغة..

ـ ألم تر دخاناً ينتشر؟

ـ كلا يا مولاي.

ـ ألم تسمع صوتاً غريباً؟

ـ كلا يا مولاي"، ص46.

كذلك فإن سخربوط يعلن عن نفسه، عندما يعطي فاضل صنعان طاقية الإخفاء التي استخدمها فاضل في العبث ثم في السّرقة والقتل:

"واجتاحت الحيّ حوادث غامضة فأنستهم القضية والمجرم الهارب.. صُفِعَ وجيه من فوق بغلته فيقع على الأرض.. يصيب حجر رأس سامي شكري كاتم السر، فيشجّه، وهو بين حراسه، تختفي جواهر ثمينة من دار الحاكم، تشتعل النار في وكالة الأخشاب، ينتشر العبث بالنساء في الأسواق..... إلخ"، ص245.

  1. أما في المستوى الثالث فيتجسّد العفريت شخصية يراها الجميع، وقد حدث ذلك في حكاية أنيس الجليس؛ إذ تتمثل زرمباحة في شخص امرأة جميلة جداً غاب عنها زوجها، ويتمثل سخربوط في هيئة عبد عندها، فتقيم في الدار الحمراء (لنلاحظ دلالة اللون) وتستجلب الجميع إلى بيتها (بمن فيهم شهريار) فرادى ثم جماعات، وتحبسهم وتأخذ ثيابهم، وكان من الممكن، لولا عبد الله المجنون، أن يخرجوا عراة إلى الشارع:

"تتابعت الرجال.. الفضل بن خاقان.. سليمان الزيني.. نور الدين.. دندان.. شهريار.. استسلموا للنداء الآسر.. ثملوا بالنشوات المعربدة، ثم سيقوا عرايا إلى الأصونة، وترامى إليهم صوت أنيس الجليس وهي تضحك ساخرة"، ص185.

  1. ويمكن أن نلاحظ في هذا السياق أن هؤلاء العفاريت يجرون حوارات بينهم، ويعلّقون على الحكايات بين وقت وآخر، ومن ذلك الحوار الذي يجري بين سخربوط وزرمباحة، عندما يتقدم كرم الأصيل لخطبة دنيا زاد بعد ليلتها الحلمية/ الحقيقية مع نور الدين:

"ـ تسلية نادرة.

ـ ترى هل تنتحر الجميلة أم تقتل؟

ـ الأجمل أن تقتل وينتحر أبوها"، 119.

وفي حوار آخر بينهما يقول العبد/ سخربوط لأنيس الجليس/ زرمباحة:

"ـ حبيبتي زرمباحة عما قليل سيشرف دارنا بيومي الأرمل كبير الشرطة..

فقالت المرأة:

ـ كما رسمنا يا سخربوط، ونحن في الانتظار.

ـ دعيني أقبّل الرأس الحاوي للعبقرية"، ص178.

مثل هذه الشماتة لا نجدها في حوارات العفريتين المؤمنين سنجام وقمقام، بل نجد بديلاً لها رعشات أسى تتجلى حزناً على سلوك البشر، وعلى عذابهم، ويمكن أن نمثّل لذلك بالسياق التالي:

"همس قمقام في أسى:

"ـ يا لعذاب البشر.

فقال سنجام كالمعتذر:

ـ ما فعلتُ إلا أن أنقذتُ روح جمصة البلطي من الجحيم.

ـ ما تدخّلنا مرة في حياتهم وانتهى الأمر بما نود.

ـ والإغضاء عنهم فوق ما نحتمل".

  1. كما يمكن أن نلاحظ أنّ العفريتين المؤمنين قمقام وسنجام أقلّ تدخلاً في الأحداث من العفريتين الكافرين سخربوط وزرمباحة، وعلى الرغم من ذلك سنلاحظ ملاحظة مكانية مهمة جداً، وهي أنّ العفريتين المؤمنين يظهران دائماً فوق الشجرة في أثناء حواراتهما، بينما يكون العفريتان الكافران تحتها، أي على الأرض، وبمعنى آخر فإن ­­­­الخير يعلو على الشرّ مهما ­­­­كان كانت إرادة الشرّ قوية وفاعلة.

تعليق عبر الفيس بوك