"فاتحة" سمير الشباري.. سؤال الوجود في ذاتٍ متصارعة

 

د. نادية الأزمي| المغرب

 

تطرح قصة "الفاتحة" لسمير الشباري سؤال الوجود على مصراعيه، تتحرك بينه وبين العدم، في مساحات سردية متداخلة، تضيع فيها الحدود بين القلب والروح، وبين الفكرة وصاحبها، ولا ينهض في الذاكرة بعد القراءة إلا هلاوس وهواجس حول أسئلة لا أجوبة لها. وإذا كان الكاتب الذي كتب "فاتحته"، فإننا نقرؤها اليوم على روحه، بعد أن نلمس في هذه القصة إحساساً طاغياً بالموت الذي على وشك ان يداهم أيّاً منّا، تاركاً ثغر السؤال مفتوحاً.

يبدو الموت طاغياً من البداية، من العنوان "الفاتحة"،(1) وهو عنوان يحيل على فاتحة القرآن، وفاتحة الحياة، وهو على ارتباطٍ جدِّ وثيقٍ بعنوان المجموعة. وإن كانت العلاقة بينهما علاقة تضادّ من جهة وعلاقة توافق من جهة أخرى، فعنوان المجموعة "ألق الدافن"(2) يحيل على الموت الذي هو ختام الحياة لا فاتحتها، والعنوان نفسه يحيل على قراءة "الفاتحة" في حضرة المدافن، والموت حاضر في الحالتين، يقرّع به سمير آذاننا، لا في عنوان المجموعة، أو عنوان القصة فحسب، بل في مضمون القصة؛ فالقاص  سمير شباري، وهو يستدرجنا في سرد حكاية هذه القصة، يُهيئنا كقراء لفكرة الموت التي تُشكل لديه سؤالا وجوديا،  وهو المؤمن بحتمية الموت والحياة، الحائر أمام أسرارهما، فيقول مثلاً: "وكنت أكابر في العناد باليقين دون الشك في حتمية الأقدار"(3)، ويرى الموت رديفاً للحياة، والمسألة ليست إلا فترة مهما ابتعدت زمنيا فهي واقعة، لا محالة. يقول: "وما هو إلا الزمن بيننا وبين يأسك القابع وراء أكمة الكآبة المستوحشة في ذهنك البئيس."(4)

ويتابع القارئ من خلال مجموعة من الإشارات ذاك الصراع الذي لا يهدأ بين الإنسان ونفسه، ذلك الصراع بين النقيضين الذي يقطن كما يقول في" كل التجاويف الدخلانية في جسدي المتصدع"(5)، يتنازعان لكنهما لا يفترقان، ينهك أحدهما الاخر بالتفكير، لكنه لا يبغي عنه بديلا، بينما تظل الفكرة اليقينية (التي هي بطلة قصّته) بعيدة المنال، فكأنّه يردّد قول العزيز الحكيم: "قل الروح من أمر ربّي"(6)، والفكرة اليقينية التي يهجس بها ستنفصل عنه في يوم من الأيام:

"رأيتها وقد انفصلت عن جسدي، عاتبتها لوم الأحبة:

- لماذا هجرتني لما احتجت رفقتك؟"(7)

إن الصراع الوجودي الذي تغذيه الأسئلة التي طرحها السارد على هواجسه، صراع تَرفع الأسئلةُ الغيبية من سقفه التوتّري، فحين نقرأ السياق التالي: "فاجأني السؤال، سؤالك عما وراء الموت"(8) تثار في أنفسنا زوبعة من فوضى الأسئلة التي تظل في أحيان كثيرة مُقلقة بلا إجابات دقيقة تدحضها أو تؤكّدها، في إطار اختفاء الأجوبة التي تُجانب المادّي الملموس إلى الما ورائي.

ويلاحظ القارئ أنّ الكاتب الشباري يستنجد، دعماً لجوهرية هذا الصراع، وأهميته، بأسماء عاشت قلق الوجود، وقرأته قراءات متباينة، من مثل هتلر وماركس، وبن لادن، حيث اتجه هؤلاء مسارات مختلفة نحو موت يليق بأفكارهم، ولمَّ جميع هذه الشخصيات لم تستطع في ظلّ المادي الملموس أن تجسُر المسافة بين الوجود والعدم، على الرغم من أنها مسافة صغيرة، أدركها الكاتب، حين قال: "كم هي ضئيلة هي المسافة بين الوجود والعدم"، ووصلها حين وقف على حافة الموت ليتركنا، بعد أن أنشد أنشودته البليغة.

ويأتي الفضاء القصصي ليدعم جو التوتر النفسي القائم على الصراع، ويتجلّى ذلك من خلال الثنائيات المكانية التي رسّخها النص كالجنة والنار، ومن خلال تأثيثات ذلك الفضاء من مثل الحانات والصراط المستقيم؛ ليكتشف السارد وهمه الذي بدأ به القصة: "كنت أزعم أن الرحيل إلى الجنة قبلة للمتراخية أذهانهم"(9)؛ إذ يصل إلى نتيجة أن المتراخية أذهانهم لن يصلوا، وأنّ الذين كدّوا أذهانهم أيضاً لن يصلوا إلى الجنة/ المكان الأخير الذي هو حلمُ كثير من الذين اجتهدوا تفكيراً وعبادة، أو سلّموا أمر الوجود لصاحب الوجود، كما أن فكرة نقيض هذا المكان/ النار تهاجم الكثيرين وتؤرق أحلامهم، مما يؤكّد أنّ علاقة الفضاء هنا بمضمون القصة وطيدة ، بل إن هذه الثنائيات المتنافرة أرخت ببعض ظلالها على الحكاية حتى أصبح لها انعكاس في الواقع؛ حيث لا تغيب فكرة الموت والحياة عن أذهان أغلبنا، إلا لتحضر من جديد.

إن السارد هنا يبحث في المكان المتناقض عن ذاته، لا يهمه المكان بقدر ما تهمه فكرة الملاذ التي تضمن له الخلود، ليعيد سيرة عُشبة جلجامش، فكأن الخلود بحدّ ذاته، لا سعادته، هو الأحرى بالهجرة إليه:

يقول الشباري على لسان السارد " أنا المهاجر إلى مستقر السر أبغي الخلود صفة كاملة أو العدم صفة كاملة"، ويكشف من خلال ذلك آلية الصراع حول الملاذ النهائي؛ فالهجرة هنا ليست عبر الفضاء المكاني، وحسب، بل إنه الهروب الفكري نحو وهم الخلود.

ويستخدم الكاتب في عرض صراعاته الفكرة المتوترة لغة متوازنة، قدّمت حكاية غرائبية، ولكنها مقنعة، إنها واقعية اللاوقع التي تحمل تناقضاته، وتضم الكاسي إلى العاري، والحلم إلى الكابوس، مثلما ضمّت الموت إلى الحياة، والجنة إلى النار، وأمّا الحوار فقد جاء قصيراً حاسماً مثل سكّين، على نحو ما نقرأ في السياق التالي:

 - هيه.. ألم تدخل الجنة؟

سألت بمكر ينم عن استهزاء حارق.

- ولم أدخل النار".(10)

ننهي قراءتنا هذه بعبارة قالها السارد، وهي عبارة أراها في غاية الأهمية، ونصُّها: "نمت نوما هادئا لا حلم راودني ولا كابوس هاجمني، فقلت في نفسي ما أحلى الموت..".(11)

لقد وصل السارد، ومعه الكاتب، إلى النهاية المحتومة، إلى ذلك الموت اللذيد، وتركنا خلفه أحياء، نلهث، مثلما كان يلهث، بحثاً عن أسئلة بلا أجوبة.

...........

هوامش:

  1.   رشيد شياري، ألق المدافن، سليكي أخوين،طنجة، ط الاولى 2009، ص7
  2.   رشيد شياري، ألق المدافن، سليكي أخوين، ط الاولى 2009
  3.   المصدر نفسه، ص 8
  4.   المصدر نفسه، ص 8
  5.   المصدر نفسه، ص 9
  6. القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 85
  7.   رشيد شياري، ألق المدافن، سليكي أخوين، ط الاولى 2009، ص9
  8. المصدر نفسه، ص 10
  9. المصدر نفسه، ص 7
  10.    المصدر نفسه، ص 10
  11. المصدر نفسه، ص12

 

 

تعليق عبر الفيس بوك