سنابل جميل حداد في الخريف

 

مفيد خنسة | كاتب صحفي سوري - رئيس تحرير جريدة الثورة سابقا

 

حين وصلني ديوانان شعريان صادران معا للسيد جميل حداد؛ الأول بعنوان (صدى الحنين)؛ والثاني بعنوان (مزن الخريف) وضعتهما في مكتبتي ولم أشأ أن أقرأهما لسببين.. الأول: لأنني أعرف أن السيد جميل حداد له تجربته الكبيرة في السياسة أولا.. ولديه خبرة واسعة في الإدارة وليس جديدا إن قلت: إنه كان شخصية مميزة حين كان محافظا لمدينة إدلب السورية في الستينات من القرن الماضي.. ومشهود له تاريخه الناصع حقيقة في تلك الفترة . والثاني: اعتقدت أن نشره للشعر متأخرا ليس إلا ضربا من الترف الذي غالبا يمارسه رجال السياسة المتقاعدون في ميدان الأدب.. أو ما يسمى السيرة الذاتية . ولا أنكر أنني قلبت بعض الصفحات فوجدتها ممتلئة بالقصائد وهذا ما عزز الشعور لدي بأن هذين الديوانين ليسا أكثر من كماليات  إضافية لشخصية تريد أن تعزز حضورها الإضافي بالشعر.. خاصة وأن صفة الشاعر لدينا هنا في الساحل السوري هي من لوازم الشخصية المميزه اجتماعيا أوسياسيا وحتى دينينا.. ولا أضيف إن قلت إن السيد جميل حداد هو من أقران أهم ثلاثة شعراء عرفهما العصر الحديث ومن مثلث جغرافي صغير ينتمي له وهم.. نديم محمد وأدونيس وبدوي الجبل (بالطبع البدوي الأكبرسنا بينهم).. وبحكم عملي في الميدان الثقافي السوري ما يزيد عن العشرين عاما لم أعهده شاعرا أبدا.. حتى وصلني الديوان الثالث بعنوان (سنابل العمر) وهو أكبر حجما وأضخم شعرا من سابقيه.. وهذا ما زاد من توقعي السابق.. لكن العنوان أثار فضولي فقلت في نفسي: لعل السيد أبو فراس أراد أن يدون أهم محطات حياته شعرا وإنها لمحطات جديرة بالاهتمام لشخصية كان لها دورها السياسي والاجتماعي في الحياة السورية.. وبدأت أقرأ متجاوزا التقديم للصديق الناقد نضال الصالح في محاولة لمعرفة القيمة الإبداعية لهذا الديوان.. لم أتعاطف مع قصيدة (الأم) وهي القصيدة الأولى بعد الستمئة التي ضمها الديوانان السابقان أبدا من حيث الشعر طبعا.. بعيدا عن العاطفة. وموضوع القصيدة الجليل.. ولكن حين قرأت له البيت الثالث من القصيد الثانية.. (أفول أم شروق) وهو:

واستراح الضلال بين القوافي

يكتب الشعر من مداد العوادي

 

قلت هذا مفتاح الشعر.. وبدأت أبحث عن الشعر في الديوان.. يقول في قصيدة (انفجار الشوق):

خرج الشوق من نوافذ صدري

 وهو يدري بأنني لست أدري

 

هل توافقني أيها القارئ العزيز أن هذا البيت بمفرده يكفي أن يعطي صاحبه الإقرار بأنه قول شاعر.. وأعترف أنني كنت غافلا ومتسرعا حين عزفت عن القراءة للشاعر جميل حداد.. ووجدت واجبا علي أن أسجل ما حصل للامانة والمصداقية التي عشتها طوال حياتي .. يمكن الإمعان في توضيح القيمة الشعرية في هذا البيت.. ولكن في تقديري إن أي شرح له سيقتل معناه.. ثم يضيف:

 

فاسترد الصدر الذبيح ضناه 

 ولهيب الأشواق بالنبض يجري

//

ضاع قومي وبات حلمي جريحا

وجراح الأحلام ديوان شعري

وإن كنت أجد أن استخدام (ضناه) هنا غير موفقة.. لكن البيتين جميلان بامتياز

ويقول في قصيدة (رائحة الجراح):

لو كنت أملك أمرا عز صاحبه

لكنت أسمع جرحا كان يسمعني

 

إذن أستطيع القول واثقا: إن الديوان الشعري (سنابل العمر) مليء بالسنابل الشعرية في حقول طافحة بالمواسم.. وللمواسم أحوال كما للنفس الشاعرة محطات ومناسبات وعلامات.. الغربة والمحن والصداقات والترحال والأهل والابناء والأحفاد والأصدقاء والخلان.. أما الأصل في كل هذا لدى الشاعر حداد الوطن وهمومه .. أحوال الناس ومعاناتهم.. إنها قصائد متنوعة تنوع الحياة بكل تفاصيلها وهي في أغلبها تسجيلية تستجيب للحالة الوجدانية التي تؤججها المناسبات المتنوعة.. وتصوغها شعرا سجية شاعرمفطورة ذائقته على الموسيقا الشعرية.. لذلك كثرت القصائد على البحر البسيط ثم البحر الطويل ثم الخفيف وهذا يتعلق بالذاكرة الحافظة للشعر العربي الأصيل القديم.

شعر جميل حداد يشبهه واضح وصادق وطافح بالعاطفة الإنسانية الجياشة.. حيث يمزج الخاص بالعام.. والذاتي بالموضوعي لتأتي القصيدة لديه أشبه بالقصة لها مبتداها ومتنها ومنتهاها وهو لا يعير كبير الاهتمام للبلاغة والبيان فيها.. فيأتي البيان مع النسيج العام للقصيدة وتأدي البلاغة كحالات من الصحو والإشراق  الملهم.. وتكون الدفقة الشعرية مؤاتية لإنضاج السنابل المؤهلة للإثارة والإدهاش في كبريائها وانحنائها من شدة الامتلاء والخصوبة والبهاء.

 

تعليق عبر الفيس بوك