المشروع العربي (1-2)

عبيدلي العبيدلي

مُنذ أن وسع من دائرة الموضوعات التي بات يختارها للقائه الأسبوعي، الذي يصادف يوم السبت من كل أسبوع، شكل "مجلس الدوي" حالة ثقافية مميزة، نجحت في بناء مجتمع ثقافي يؤم ذلك المجلس أسبوعيا.

نجاح المجلس مصدره عاملان مركزيان؛ الأول منهما: الحيز الاجتماعي الذي تشغله عائلة الدوي في فضاء مدينة المحرق، أما الثاني فذلك التنوع الثقافي الذي رسمت معالمه الموضوعات التي تطرق لها ذلك المجلس الذي، تعمد، تجاوز الدائرة السياسية الضيقة، إلى تلك التي تحتضن قضايا في غاية الجرأة، دون التفريط في الموضوعية والاتزان.

احتضن لقاء المجلس الأسبوعي، مساء أمس السبت 28 سبتمبر 2019، كوكبة من النشطين، ثقافيا، تناولوا موضوع التجربة الناصرية. ودون الدخول في تفاصيل ما دار من نقاشات، أثار اختيار الموضوع ذاته، تساؤلا في غاية الأهمية، وهو أن المرحلة الناصرية، في التاريخ العربي الحديث، كشفت عن مجموعة من المشروعات العربية، ربما تضاربت في آفاقها، لكنها عبرت عن حالة حيوية من النشاط الفكري، والسياسي العربي في تلك الفترة.

قاد المشروع الأول منها قائد شاب قادم من رحم القوات المسلحة المصرية، التي عانت، سوية مع نظيراتها من الجيوش العربية، من هزيمة نكراء في الحرب ضد العدو الصهيوني حفرت جرحا عميقا في صفوف من أطلقوا على أنفسهم مجموعة "الضباط الأحرار". وقادوا انقلابا عسكريا، كان في صلبه ثورة حقيقية، أطاحوا فيه بالملكية، وأقاموا اول نظام جمهوري عربي في مطلع الخمسينات من القرن العشرين.

لسنا هنا بصدد الخوض في تقوم تلك التجربة؛ إذ سنكتفي بالتوقف عند القضية الأبرز من معالمها، وهي كونها حملت مشروعا في أحشائها، وقادت العرب حينها وراء ما يمكن أن نصفه بالمشروع العربي، يطرح قضايا فكرية وسياسية، بل وحتى ثقافية، شكلت في جوهرها قيم ومقاييس ذلك المشروع، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مفهوم "الاشتراكية العربية"، التنمية الاقتصادية من خلال حركة التصنيع التي كانت مجمعات منطقة حلوان الصناعية نواتها الصلب. ثم وسع جمال عبدالناصر دائرة ذلك المشروع، فكان جزءا من مشروع أممي، هو ما عرف حينها بدول عدم الانحياز، التي كانت تفتش لنفسها عن موطئ قدم بين الفكر الشيوعي، والفكر الرأسمالي. ومن ثم فالعرب، وليس أحدا سواهم، كما يدعي البعض، هم من طرحوا وشجعوا شعوب البلدان النامية على البحث عن طريق ثالثة. وسبقوا بتلك الخطوة سواهم من الدول المحيطة بهم من أمثال إيران، بل وحتى تركيا، في الدعوة للتميز الثقافي والفكري، قبل السياسي.

وقد لخص عبدالناصر لب أفكاره في كتابه الشهير "فلسفة الثورة"، الذي يقال إن من "كتبه هو محمد حسنين هيكل في ضوء أفكار عبد الناصر"، التي يصفها البعض بالقول إنها "أيديولوجية الثورة العربية والمشروع الوحدوي العربي". ولعل من بين من قوم تلك التجربة الناصرية، في إطار مشروعها العربي، الباحثة مارلين نصر في كتابها الصادر عن "مركز دراسات الوحدة العربية"، الموسوم "التصور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر، 1952-1970: دراسة في علم المفردات والدلالة".

لا يدَّعي هذا المقال مثالية التجربة الناصرية، ولا يدافع عما ارتكبته من أخطاء، بقدر ما ما يشير إلى قضية مركزية جسدتها، وهي المشروع العربي.

وعلى نحو موازٍ، كانت هناك ما عرف بـ"البورقيبية"، التي يربطها البعض، بذلك "الدور المحوري والمركزي الذي لعبهُ الزعيم الحبيب بورقيبة في تاريخ تونس الحديث كأحد رموز الوحدة الوطنيّة وتطوير العديد من المناحي التنمويّة والاجتماعيّة، فمع الدولة البورقيبيّة عرف المجتمع التونسي ضروبا من التحديث والتمدّن وقطع مع عقليّة العروشيّة والتفتّت المُجتمعي وقطع خطوات مهمّة في الأخذ بزمام العصر والاستفادة من مكتسبات الانسانيّة والانفتاح على سائر الحضارات والثقافات".

البعضُ من أمثال الكاتب عادل عبدالله، وغيره من الباحثين، يصنف البورقيبية في خانة "حركة كمالية (نسبة إلى الزعيم كمال أتاتورك)"، ويستعير ذلك التصنيف "بالاعتماد على التحليلات العميقة التي قام بها بوبي. س. سيد في كتابه المرجع (A Fundamentalfear : eurocentrisme and the emergence of Islamism)، (ويرى أن البورقيبية) قد قامت على خاصيتين متلازمتين: أولهما تحويل الإسلام من دال رئيس للنظام السياسي إلى مجرد عنصر من عناصره، وثانيهما إعادة إنتاج وضع يكون فيه الإسلام مرتبطا بشكل وثيق بالدولة" وليس بالأمة بمعناها العروبي القومي أو الإسلامي".

المشروع العربي الثالث هو ذلك الذي قاده الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود. وبغض النظر عن تباين التقويمات التي رافقت انطلاق "المشروع الفيصلي" في منتصف الستينيات من القرن العشرين، ينبغي من باب الإنصاف للرجل، الإشارة إلى أنه حمل في جبته مشروعا، رغم طغيان النكهة الأيديولوجية الإسلامية على معالمه، لكنه يبقى مشروعا عربيا، بكل ما تحمل كلمة "المشروع" من دلالات وقيم.

وبعيدا عن الهم الوطني السعودي، كانت القضية الفلسطينية تسيطر على مكونات المشروع الفيصلي، فقد "اهتم بالقضية الفلسطينية، وشارك في الدفاع عن حقوق فلسطين عالميًا، وظهر ذلك واضحًا عندما خطب في عام 1963 على منبر الأمم المتحدة حيث ذكر إن الشيء الوحيد الذي بدد السلام في المنطقة العربية هو القضية الفلسطينية.. وعلى الرغم من الخلافات بينه وبين الرئيس المصري جمال عبدالناصر، إلا أنه بعد حرب 1967 وعقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، تعهد بتقديم معونات مالية سنوية حتى تزول آثار الحرب على مصر، كما أنه قرر مع عدة دول عربية بقطع البترول أثناء حرب أكتوبر، وكما عمل على حل الخلاف بين السعودية ومصر حول القضية اليمنية".