ماذا تفعل بي الكتابة؟

ياسمين البطاط

 تدفق الكلمات لا يتوقف في عقلي المليء بالأفكار دائمًا، ولا أعتقد أنَّ هذا أمر يستدعي القلق بالنسبة لي، لم يكن التفكير يوماً جريمة، أما الكتابة..سأدع التحليل لكم. هل سألت نفسك يومًا، لماذا أكتب؟ لماذا أتعرى من مشاعري أمام الجمادات؟ ولماذا أنا مفضوح أمام دفاتري؟ ولماذا ألوث بياض الأوراق بحفر الحبر عليها؟ هل تهمني الكتابة إلى هذا الحد؟ ولماذا هي بالذات؟ ما السبب الذي يجعلني أعود إلى غرفتي بعد يوم طويل في عالم موحش كهذا وبدلا من النوم والراحة ألجأ للكتابة؟

أسئلة كثيرة تتغير إجابتها دائماً بالنسبة لي ولكن ثمة حقيقة واضحة، حقيقة تجيب عن كل تساؤلاتي اللانهائية بشأن الكتابة، ربما لن تكون الإجابة التي تنتظر سماعها، ولن أحاول في كلماتي هذه إقناعك بأي فكرة أطرحها ولكن ثمة شيء في العالم هذا يدفعني للكتابة، لأن أثبت وجودي وبقائي في المكان الذي كنت فيه قبل قليل، وبالنسبة لي ولكثيرين مثلي، هو الرحيل.

الرحيل الذي يأخذ الكل بلا استثناء أو مرادف الموت، ولأنَّ حقيقة الموت تسقط علينا جميعا، لا بد لنا أن نكون الكائن المعاند كل الحقائق، فنسعى إلى الخلود الذي اخترعناه ظنا منِّا بأننا انتصرنا، نحاول البقاء بكل الأشكال، ولا أحد سينجو من فكرة الرحيل إلا الاستثنائي، الذي يحاول جاهدا غرس أثر ما في الآخر، ترك بصمة في قلب أحدهم. هل تعلمون؟ إن أمر الخلود هذا طبيعي، نحن البشر نحاول الخلود منذ مدة طويلة جدا، منذ أن وجد الإنسان، وهو يبحث عن إمكانات الخلود. فهو كائن لا يريد الفناء، ويتمنى لو عاش بشكل أبدي. ويكفي للمرء أن يقرأ تاريخ الطب، ليكتشف المجهود الجبار الذي بذلته الإنسانية لإيقاف الألم ومن ثم الموت، أو أن يقرأ ملحمة جلجامش التي تعتبر إلى يومنا أعظم ملحمة تاريخية عرفها الإنسان، جلجامش الذي سعى إلى الخلود بأي طريقة ممكنة، والذي ابتلعه الموت في النهاية، لكنه بقي خالدا، بطريقة أو بأخرى.

وأنا هنا الآن أكتب هذا النص، مليئة بكل أسباب الكتابة والقراءة والاستمرار، أنتشل الحروف من هاوية الأفكار المتشابكة في عقلي فأسطرها حسبما أشاء بلا قيود الأوزان، أرمي بتلك الكلمات يمينا وشمالا، ألون اللوحة التي أرسمها فأصبغ الأشجار بالأحمر وأحول السماء إلى الفيروزي، أطلق القيود التي كبلها غيري في عقلي فأخرجه من جميع القوالب الجاهزة التي اعتدت العيش بها، وكأني تلك الطفلة الطائشة التي تمسك بأقلام الحبر الموضوعة على الطاولة وبأناملها الصغيرة تبدأ التلوين خارج الخطوط غير مكترثة بالحواجز. هذا ما أفعله بالكتابة، أما هي وبفعلي أنا، فتفتح لي باب القفص الصدئ لأطير فوق المكاتب، متحررة حتى من فكرة وجودي على هذه الأرض، بات الأمر كهروبي إلى الخيال، والعيش فيه ما دامت يداي تملأ السطور بكل ألوان الشعور. هناك بعيدا، أقابل كل الذين بقوا في الماضي، وأعود إلى كل الأماكن التي لم تغادر قلبي يومًا، هذا ما تفعله الكتابة بي.

يقول سعود السنعوسي: في الكتابة أحارب النسيان والموت، لأني أخاف أن أَنسى أو أُنسى، فالكتابة تمنحني فرصة مُخاطبة الأحياء بعد موتي، يتعرفون من خلالي إلى زمن بعيد

ماذا تفعل أنت بالكتابة؟ وماذا تفعل بك؟

تعليق عبر الفيس بوك