تغيير المفاهيم
د. صالح الفهدي
يُقال "لا يُمكنكَ أن تحلَّ مشكلات اليوم بأفكار الأمس" وعلى غِرارِ هذا المعنى نقول "لا يمكنك السير نحو المستقبل بمفاهيم الماضي"، فما المشكلة في ذلك؟ إذا أدركنا أننا لا يُمكن أن نتحرك نحو الأمام إلا بقدر المفاهيم التي نرى بها العالم، فإننا سنفهم أن المشكلة تكمنُ في أن المفاهيم إن ظلَّت هي ذاتها راكدةً، ساكنةً، تتشبَّثُ بقناعاتها رغم التغير الذي يحدث في مجريات التحولات على مختلف الصُّعد، فإن تلك المفاهيم هي ذاتها العقبات الكأداء التي توقفنا عن السير قُدماً نحو المستقبل. .!
لا يُمكننا أن نحث السير نحو المستقبل لمجرد أن نرفع شعارات برَّاقة، تحتضنُ عبارات جذَّابة بأننا نتوجه إلى المستقبل بعزيمةٍ ورؤية وحصافة فكر، دون أن تكون تلك العبارات مجسِّدةً ومعبرةً عن المفاهيم التي بتنا نعتنقها بقناعةٍ تامة، ذلك أشبه بقول الفيلسوف الهندي طاغور "لا يُمكنك عبور البحر بمجرد الوقوف والتحديق في الماء" ولا يُمكن كذلك العبور نحو المستقبل برفع عباراتٍ جوفاء، بل القصدُ هو أن تصنعَ سفينة، لكن لكي تصنع سفينة لا يمكنك أيضاً أن تصنع سفينةً بقرع الطبول (كمثل رفع الشعارات) لكي تلمَّ الكفاءات القادرة على صنعها والعبور بها فوق البحر بل الأمرُ في مضامينهِ العميقة مثلما قال الفرنسي أنتونيو دي سانت (1900-1944): إذا أردت أن تبني سفينة فلا تقرع الطبول للرجال كي تكلفهم بجمع الحطب، ولكن بدلاً من ذلك إِلْهم أخيلتهم بالبحر الواسع الذي ليس له حدود"، الإلهامُ هنا هو الذي سيُغيِّرُ المفاهيم، والتي بدورها ستصنع المستقبل.
بيدَ أن السائد هو أننا نريدُ أن نتجه إلى المستقبل بالمفاهيم ذاتها التي كانت ملائمةً للأمس، ولا زلنا نتمسك بقناعة أن هذه المفاهيم صالحةٌ لكل زمانٍ ومكان على الإطلاق..! وإذا كنَّا نسلِّمُ بأن الكثير من المفاهيم صالحة لكل زمانٍ ومكان إلا أن بعض المفاهيم لا يمكن أن تكون صالحة في ميادين الإدارة، والسلطة، والسياسات، والإجراءات، والقوانين، والتشريعات، والمعالجات، ولهذا فقد نتج عن عدم تغير المفاهيم معضلاتٌ عطَّلت مسارات التنمية، وحراكها المرسوم.
من تلك المفاهيم "الدوران حول المشكلة وعدم تقصُّد علاجها في أساسها"، ومعنى ذلك أن كثيراً من المشكلات المتعلقة بإعداد الكفاءات الملائمة للعمل، مشكلات الباحثين عن عمل، المشكلات الفنية للتخطيط، مشكلات ناتجة عن توزيع الثروة، وأولويات المشاريع، الثغرات التي ينفذ منها الفساد، كل هذه المشكلات وغيرها يتم الالتفاف عليها إمَّا بإنشاء مؤسسات تتوالدُ عنها مؤسسات وتتعطل لاحقاً كل هذه السلسلة من المؤسسات لأنَّ المشكلة تظل قائمة في المصدر، أو ينتج عنها لجان فتميت الموضوع من أساسه، كما يقول د. غازي القصيبي "إذا أردت أن تقتل قضية، فشكِّل لها لجنة"..!!.
ومن تلك المفاهيم تكليف من لا يمتلك الخبرة والكفاءة لقيادة التغيير، وهذا ينطبقُ عليه المثلُ القائل"فاقدُ الشيءِ لا يعطيه" فكيف تتوقعُ أن يُحدث التغيير ممن لا يملكُ أدوات التغيير في نفسه، فتجدُ أن السفينة وقد أضحت بين يديه وهي تترنَّحُ من ضفَّةٍ إلى ضفةٍ، لا يعرفُ لها مساراً، ولا يعلمُ لها مصيراً ..!! وسبب تلك الاختبارات تعود لاعتباراتٍ لا علاقة لها بالمهنية والكفاءة في العمل..! أحدُ هؤلاءِ دخلَ عليه أحد المُنظمين لسباقات الهجن في مكتبه الرسمي، فقال له: قل تم. قال: تم، قال: تدفع لنا مبلغاً كذا.. (نسي هذا المسؤول أنَّ الضيف زاره في مكتبه في الوزارة وليس في مجلسِ بيته)..!
ومن تلك المفاهيم تركُ السفينة تقود نفسها، بدلاً من اتخاذ أي قرار يضرُّ بالسفينةِ وأهلها، فتبقى أنظمةُ العمل قائمة على قِدَمِها، والقوانين والتشريعات معمولٌ بها على رغم المتغيرات التي تجاوزتها بسنواتٍ بعيدة، وهذا الأمر يعودُ إلى عدم تمكين الكفاءات بالصلاحيات والقرارات التي تؤدي إلى التغيير في حينه، بل شيوع الخشية من أن أي تغيير سوف يُلحق بالمكتسبات الضرر البالغ، فيتراجع كل صاحب قرار إلى الوراء جراء الخوف من فقدان الميزات في حالة التغيير إيجاباً أو سلباً..!
ومن تلك المفاهيم أن المُعالجات، واتخاذ القرارات يجب أن تأخذ وقتاً مديداً من الدراسة، والتفكير، والتمحيص، وتدبُّر النتائج، وتخيُّل العواقب، وهذا يستغرقُ وقتاً طويلاً جداً، لا يتلاءمُ مع طبيعة هذا العصر التي تستلزم سرعة اتخاذ القرار، وحلّ المشكلات بصورة فورية، لأن العالم مليءٌ بالفرص والتحديات وكلها تجري بوتيرةٍ سريعة لا تؤمن بمفهوم البطءِ، والنظر، والتفكُّر.
أخبرني أحد رجال الأعمال أنه جاءَ برجل أعمال ثري جداً من إحدى الدول الشرق آسيوية، يحمل حقيبة بها مئات الملايين لغرض الاستثمار، وبعد أن اجتمع مع مجموعة ممن يقال عنهم "رجال أعمال"، أسرَّ في نهاية اليوم إلى صاحبنا قائلاً: رجال الأعمال يا صاحبي هم الذين يقررون في وقتها اقتناص الفرصة، وليس أولئك الذين يعودون إلى مجلس الإدارة، وهذه تعود إلى الجمعية العمومية، فالفرص لا يمكنها أن تنتظر، وإنني لمغادر إلى بلدٍ أجدُ فيه أصحاب قرارات حاسمة وآنية، وهكذا فعل ووجدَ ما يُريد..!!
ومن تلك المفاهيم أن التراجع عن القرارات التي تتخذ لا يعدُّ أمراً جيداً لصاحب القرار، فتظل الكثير من المشكلات الناتجة عن تلكم القرارات أعظم أثراً مما كان قبل اتخاذها، لأنها سارت في الاتجاه الخاطئ، أو أن آثارها لم تكن متوقعة الحدوث، وقد كان الأجدى أن يتم تغييرها فور اكتشاف آثارها الوخيمة، لأن المكوث مع الضرر أعظم أثراً من إصلاح الضرر في حينه، يقول لي أحد صنَّاع القرارات في إحدى المؤسسات الخاصة: أصدرتُ توجيهاتي لأحد المراكز التي أُشرف عليها بالقول:"إن فشلتم فافشلوا سريعاً if you fail,fail fast " لإيماني بأن النظر للأمور وهي تتدهور بحجة أن الوضع سيتحسن ليس من الحصافة في شيء..!
لقد ضربتُ فيما سبق بعض الأمثلة على المفاهيم المعطِّلة للتنمية، والتي لا يمكنُ لنا أن نخطو قُدماً ونحن نتمسَّكُ بها نحو المستقبل إلا ببطءٍ شديد، وبحملٍ ثقيل.. المستقبلُ يتميَّزُ بمتغيرات هائلة تتطلبُ أن نعيد تغيير مفاهيمنا في كثيرٍ من الأمور، ومن ذلك؛ أن نعالج الأمراض لا أن نعالج الأعراض، وأن نتخلى عن مفاهيم الوجاهةِ في الإدارة، والطبقات المتعددة في الهياكل الإدارية، وأن نثق بالكفاءات، ونمنح أصحاب القدرات الصلاحيات، وأن نخضع القوانين لآلية تصحيح فورية، وسريعة، ومرنة تتجاوب مع المتغيرات، وأن نختار القيادات الكفوءة التي تقود عمليات التغيير بمهنية عالية، وقدرة متميزة..
تصحيح المفاهيم أمرٌ لا غنى عنه لنتلمَّس الطريق إلى المستقبل، فليست الموارد ولا المؤسسات ولا البنى التحتية ولا غير ذلك قادرة على ترسُّم الطريق السريع نحو المستقبل دون العقول، والعقول لا يمكنها أن تحدث أثراً يُذكر دون أن تكون مرنةً في مفاهيمها، متجددةً في التعاطي مع المتحولات، لكي تستطيع أن تستفيد من فرص الرياح المواتية.