أبواب "جمانه طه" في الركام

...
...
...

 

مفيد خنسة | شاعر وناقد من سوريا

 

أستطيع أن أعرف النقد بأنه (علم إنشاء الحكم) . فهل يمكن لنا أن نجد تعريفا بالمعنى الاصطلاحي الشائع للنقد لا ينطوي تحت هذا التعريف ؟! . لا أظن . وطالما عرفنا النقد بأنه علم ؛ فذلك يعني كل ما ينطوي عليه من منهجية في التفسير والتحليل والتركيب والدراسة للبنى والعلاقات الداخلية والخارجية على اختلاف المدارس والمناهج والاتجاهات . ويأتي النقد الأدبي كفرع من فروع النقد في نظرية المعرفة والفن ؛ وهنا أتوقف عند كتاب جديد للقاصة الكاتبة السورية المعروفة جمانة طه بعنوان ( أبواب في الركام ) وهو عنوان القصة الأخيرة في مجموعتها القصصية الصادرة حديثا عن اتحاد الكتاب العرب .

الكتاب مؤلف من عشرين قصة قصيرة وكل قصة يكون بطلها باب من الأبواب في البيت أوالطائرة أوالعاصمة دمشق أوفي المؤسسة أوالمصعد أوالحديقة.. إلخ؛ والباب يروي لنا ما يسمع من أحداث وحكايات ومفارقات بين شخوص القصص التي تتسم في غالبيتها بالواقع المعاش والمعاناة التي يعاني منها العامة من الناس؛ وبشكل خاص المنعكسات التي عانى منها المواطن السوري من محنة الحرب المدمرة للبنى التحتية في المستويات كافة.

الكاتبة جمانه طه تحاول أن تؤنسن هذا الكائن المرافق للإنسان في رحلة العمران ؛ فالباب لديها يحس ويرى .. وهنا تحضرني مقولة من الذاكرة لابن سينا (إن النجوم تحس وتتخيل) . للوهلة الأولى تكون الفكرة صادمة وتدعو إلى التحفز وسرعان ما تجد نفسك أنك مدعو للتامل والمحاكاة والقراءة المتأنية .. إن الأشياء من حولنا تشاركنا.. تشاركنا ماذا ؟ هذا ما تحاول أن تجيب عليه القصص العشرون .. إن الباب يشاركنا حياتنا بكل تفاصيلها .. أليس الباب من يلاحظ الخرس الأسري الذي يصيب حياتنا بفعل شبكات التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات الهائلة.. وهو الشاهد في دار القينات على ما جرى بين الماجن والجارية سلامة الزرقاء وقصة الؤلؤتين بينهما.. وهو الشاهد على هجرة ايهاب وريم من حلب بسبب الحرب وويلاتها وما لاقياه معا من معاناة ومشقة وتعب.. وهو الشاهد على محنة السيدة الدمشقية أم سعيد بعد زواج زوجها من نهى.. باختصار الباب هو البطل الأساس في القصص جميعها . لكأن الكاتبة بحسها الأنثوي المرهف.. وموهبتها الأدبية المميزة .. وتجربتها الإنسانية الغنية أرادت أن تضع قارئها أمام المسؤولية الإنسانية والأخلاقية لما حوله من أشياء مرافقة ومنها الباب.. أليست الأبواب كما تقدمه في مستهل مجموعتها القصصية .. (للأبواب دور كبير في حياتنا ؛ يشكل لنا خط الدفاع الأول ؛ وتحمي مدننا وبيوتنا ومكاتبنا وأمكنة أعمالنا من اللصوص والدخلاء؛ وقوفها أمام غرفنا وبيوتنا يشعرنا بالراحة والأمان؛ ويسهل عبورنا إلى خارج المكان وإلى الدخول إليه).. (مساماتنا ممتلئة بقصصكم وحكاياتكم ؛ نعشق التلصص ونهوى تتبع الأخبار برغبتنا حينا وبغيرها حينا آخر؛ فنحن لا نملك وسيلة تمنع آذاننا من الاستماع لأحاديثكم وأعيننا من مشاهدة ما تفعلون) .

القصص بعمومها تعتمد على الاسلوب الكلاسيكي في طرح المواضيع المختلفة .. الحب .. الزواج .. حياة المتقاعد.. السفر.. الغربة.. الحرب.. الخ وتقدمها من خلال ما يسمع الباب من قصص شتى وحكايات وأحاديث.. من دون أن تعمل الكاتبة حاسة النظر لدى الباب.. ولأن الكاتبة بطبيعتها شخصية متحصنة بالأصالة والأخلاق فبقيت خلال قصصها تقدم العام منها فلم نسمع حديثا خاصا يهز الشخصية من أعماقها في ارتكاب حماقة أو معصية أوجناية أو شيء من المحرمات التي ترفضها الأخلاق العامة.. لم نر صورا التقطها هذا الباب أو ذلك لم يستطع أحد أن يلتقطها غيره بسبب تفرده في تلك الأمكنه المصاحبة لتحقق الكاتبة عامل الإثارة والإدهاش والتفرد.. بل بقيت في الإطار العام للقضايا الاجتماعية التي تعاني منها شخوصها .. والكاتبة جمانه طه تحافظ على اسلوبها في السرد القصصي الذي يعتمد على الجمل القصيرة .. وعلى البساطة والوضوح في لغة القص ولا تقع في مصيدة اللغة الشعرية على حساب الموضوعات والأحداث . بقي أن نقول : إن الباب لدى الكاتبة جمانه طه هو باب عربي القلب والهوية.. هكذا تنهي قصتها (المدينة المعجزة) وتقصد مدينة دبي في الإمارات العربية المتحدة . على لسان باب المدينة الكبير (رأيت ما أيقظني وفتح عيني.. صبية في ريعانها تسير برفقة سيدة أحسب أنها جدتها في البداية ظننتهما أوروبيتين ؛ إلى أن سمعت الجدة تلوم حفيدتها على تحدثها بالإنكليزية وهي عربية.. استيقظت حواسي وانتشت نفسي؛ تمنيت أن أشكر الجدة وأقبل يدها .

ألم أقل لكم: إني عربي القلب والهوية .

إن ما تقدم لا يرقى إلى مستوى النقد؛ لأن النقد أساسا يتناول الظواهر في مختلف مناحي الحياة .. انما هي قراءة لمجموعة قصصية تستحق الاهتمام والدراسة .

تعليق عبر الفيس بوك