الإلحاد في البيئة العربية.. الداء والدواء

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

هل تنمو ظاهرة الإلحاد في البيئة العربية بعد أن لقحت وولدت شئاما ، كما قال زهير .. أم تصير كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟ هذا التنامي الملحوظ لهذه الظاهرة التي تتجاهلها وسائل الإعلام وتروج لها وسائل التواصل من طرف خفي على بعض المواقع والجروبات (والشلل) التي تتحول إلى لقاءات وحوارات ودعوات ينعق أكثرها بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، ينادي أمواتا غير أحياء..

هذه الدعوات النازحة إلينا عبر القارات لم تألفها بيئتنا العربية، إلا بعد أن دب دبيب المرض الفكري بين ظهرانيها فغدت تتلقف كل ما يرد إليها من دعاوى فاسدة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ، يتلقونها بألسنتهم ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم.. وليست هذه أول دعوى باطلة تفد إلينا ثم تجر أذيالها خائبة خاسرة ترجع من حيث أتت ، فقد نبع من بيئتنا قبلها السبأية والقرامطة والجبرية والجهمية والبهائية وغيرها ، وأتت من خارجنا العلمانية والماركسية والليبرالية والداروينية وغيرها ، ثم لم يبق منها إلا كأثر المجل أو الودق ، وما زاد الإسلام إلا ثباتا وعزا وانتشارا، وما زادت هذه  الدعوات أصحابها وأتباعها إلا خبالا ..

إذا كان لكل مذهب فكري أو فلسفة أو طارئ يطرأ على ساحة الفكرة أو المعتقد، له مبادئ وأفكار ينطلق من خلالها ويقوم عليها، أما دعاوى الإلحاد فلا تقوم على مبادئ أو أسس أو أفكار عكس كل الفلسفات ولا يمكن بالتالي أن يطلق عليها فلسفة، إنما هي مجرد (دعاوى) كما أطلقنا عليها، ليس لها أدنى فكر إنما هي منطلقات نفسية بحتة  من الخصوصية بمكان لدرجة ألا يكاد يتشابه فيها شخصان ولا يتفقان على مبادئ سوى فكرة الإلحاد لا غير.. لكنها قد تتفق في أسباب الاعتناق التي على رأسها الترف المادي والفكري .. وقد تختلف مسمياتها تبعا لحالة التخبط النفسي التي يمر بها المدعون ، فتارة ينكرون وجود الله ، وتارة يدعون أن الأدلة الفرضية على وجود الله غير كافية للإقناع والإيمان ، ثم تختلف المسميات (اللادينيين ــ الملحدين ــ الااكتراثيين ــ الاأدريين .. الخ ) ، لكن البغي والكفر في النهاية ملة واحدة ..

وقد يرد دعاتها على أعقابهم يدحضون بحججهم ما سبق من ادعاءاتهم السابقة، فماذا يفعل الأتباع والأشياع الذين اعتنقوا مذاهبهم ثم لم يعودوا ..

وكان الفيلسوف (جون لوك) يقول وهو مؤسس الدولة المدنية "لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله ، فلا العهد والوعد والقسم من حيث هي روابط المجتمع البشري، ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد، فإنكار الله حتى لو كان بالفكر فقط يفكك جميع الأشياء "

ولما سئل الرئيس الأمريكي (جورج بوش الأب) عن الملحد هل يمكن أن يكون مواطنا أمريكيا صحيحا، قال ما مضمونه : إن الملحد لا يمكن أن يعد مواطنا أمريكيا، فهذ المجتمع الأمريكي مجتمع قائم تحت مظلة الدين".

وكان أبيقور وهم يطلقون عليه (فيلسوف الإلحاد) كان يقول: "لولم يكن هناك إله لخانتني زوجتي وسرقني خادمي" وقد بنى في آخر أيامه كنيسة وكان يقول هذا هو المعبد الوحيد (لله) وكل المعابد للكهنة.

فالدين والأخلاق والمثل والمبادئ هي كلها ضوابط اجتماعية ونفسية تحد من حالة النفس وما يعتريها من ترهلات وتجاوزات وانزياحات عن طريق الحق والخير والمثل ، فإذا تحللت النفس من هذه الضوابط العلوية التي وجدت لحفظها من التحلل والتحرر والانفلات ، وتجاوزت النفس كل هذه الحدود الداخلية (الفطرة القويمة) والخارجية (الدين والقيم والمثل)، استهواها الشيطان واستحوذ عليها فصارت تبعا له وكانت من الغاوين ، وصارت مرتعا لمزابل الفكر ووخم الواردات والخواطر السيئة ..

وهذا غالبا يحدث في مجتمعات الترف التي تعتبر الدين والأخلاق ليسا جزءا من تكوينها النفسي ولا الاجتماعي ، إنما هما مجرد طقوس يعتني بها بسطاء الناس كنوع من الترويح عن نفوسهم والهروب إلى قوة ما وراء الطبيعة لتخلصهم من آلامهم ومعاناتهم ، كما يقول (نيتشه) أو أحد الفلاسفة "الدين أفيون الشعوب".. كما يتجلى هذا في أوج عصر الشيوعية الماركسية (1917ـــ 1989) وقد عجل الله بهلاكها قبل أن تهلك الحرث والنسل ، وبعد أن تراجع الدين في عهدها وتنامى الإلحاد وبلغ مبلغه من البغي والقهر للشعوب ، وقد رسم أحد فنانيهم صورة كاريكاتورية : تصور العلم رجلا ضخما وهو يركل الإله بقدمه ليقول إن العلم قد قضى على خرافة الدين ، وأن مع بزوع عصر العلم يتوارى عصر الخرافة .

أما تيار الإلحاد الحديث ، فكما يقول د. سامي عامري ، في كتاب (براهين وجود الله ):

ظهر تيار "الإلحاد الجديد" بعد أحداث تفجيير برجي الئجارة في أمريكا )) سنة ، 2001 وكان أول استعمال لهذا المصطلح في مقال بمجلة Wired سنة 2006 وقد أدى ما يعرف إعلاميا بـ(الإرهاب الإسلامي) إلى وضع الإسلام لأول مرة  في الغرب في قلب الجطاب الإلحادي الغربي حتى إن هتشنز سمى أشهر كتبه الإلحادية (الله ليس كبيرا) إيحاء منه إلى قول المسلمين "الله أكبر" وصح (دواكنز) أن الإسلام أكبر الأديان خطرا على البشرية . .

إن مما نلاحظه في أوربا الكاثولوكية في (الدول الاسكندنافية) صاحبة أعلى دخول مادية في العالم أن (روح ) الإنسان تتوارى شيئا فشيئا مع تفاقم الثروة المادية ، وتوفر كل وسائل الترف ، ومع تنامى المادة وتواري الروح يصبح الإنسان كيانا ماديا بلا قيمة تحدوه، فيقدم الكثير على التخلص من حياتهم حيث انعدم هذا الرباط الذي يربطه بخالقه ، والذي يمثل له قيمة في الحياة ، وقد صدق قول الله تعالى "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا" الإسراء .

وحين تقدم هذه الوساوس إلى مجتمعنا العربي ، لا ننكر أنها قد لا تعدم وجود بيئة ثرية خصبة تنبت هذه النبتة بين ثراها وتفرخ، لكن هذا لن يستمر طويلا، فلا تزال مجتمعاتنا رغم ما اجتاحها من تغير في الفكر الأخلاقي والقيمي والديني وما تتبناه بعض وسائل الإعلام والقادة والساسة من التهجم والتهكم على الإسلام والافتئات على شرع الله من محاولة "المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث ، وإبطال العمل ببعض نصوص الشريعة الصريحة مع بقائها(النص) في القرآن ــ كما يدعون ــــ ومن محاولة علمنة الدولة وإدخال كثير من الأفكار غير المألوفة الدخيلة على مجتمعاتنا وثقافتنا، وكما قيل "لكل ناعق مجيب "، لكل ساقطة في الأرض لاقطة ... وكل نافقة يوما لها سوق ، خاصة حينما يكون الداعي أجنبي والمتلقي من بغاة الإعلام وبرامج (التوك شو).

لم يفلح الفرنسيون قديما في علمنة الدولة المصرية، ولم يفلح الفاطميون في تشييعها ، ولم يفلح الانجليز في تغيير لغتها من العربية إلى الإنجليزية وكذلك في باقي الدول العربية في الشام وليبيا وتونس واليمن والجزائر.. وإن أصاب هؤلاء شيئا من ثقافتنا وقيمنا إلا أن الخصوصية الدينية القيمية ظلت ثابتة رابضة ولولا ذلك لانطمست الهوية العربية الإسلامية منذ عصور الحروب الصليبية أو احتلال العصور الحديثة .

وسيخبو أثر هذه الدعاوى كما خبا أثر من كان قبلها وقد كان يحدوها جيوش منظمة ودول وامبراطوريات ولم يفلح أن يطفئوا نور الله بأفواهها وقد ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفي الله المؤمنين القتال ..

((إن المسلم يرى أن إيمانه قائم على وعي عاقل ، وأئه يكتشف معنى الحياة عندما يفك حجب الجهل وتكسر أغلال الغيبة، فيعيش في تواؤم مع مبادئ الوعي الكوني المحفورة حروفه في قلبه وعقله ، على خلاف الملحد على الجانب الآخر الذي يكفر بالله والوجود غير أنه يلتف وراء كفره ليقول "إن المعنى لا يكشف وإنما يصنع..

ولكن هل من العقل أن يبذر العدم حب الحياة في مفازة قاحلة، ليجتنى من الرمل والريح ثمرة زاهية ؟! وهل يدر ضرع السراب سقاية لرواء؟!))  ( د. سامي عامري ، في كتاب (براهين وجود الله ــ ص:43 ).

إن تراجع الدور الديني للدولة وترك مثل هذا الخبث يستشري في مجتمعاتها ليهدد كيان الدولة السياسي والاجتماعي، إذ أن مثل هذه الأفكار لا تصغي إليها إلا نفوس مريضة بنوع من الانفصام أو العقد النفسية تضرب في العدمية لا تلوي على هدف أو قيمة أوبناء .. إنما فقط معاول هدم، ودعوة على أبواب الفساد..  ثم تكون منها قنابل موقوتة لا تعرف رباطا ولا حجابا من الدين أو القانون أو الأخلاق ، ولا ينقصها فقط إلا: محاجة بن عباس، وحكمة على، وفقه أبي حنيفة، وفلسفة الغزالي .. فإن لم يكن ف (درة عمر).. رضي الله عن الجميع.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك