حاتم الطائي
◄ التطور التكنولوجي لن ينتظر المتأخرين.. بل سيضعهم خارج المسار الحضاري
◄ نحن أمام حرب ظاهرها اقتصادي وباطنها تكنولوجي.. وأمريكا ترتجف من القفزة الصينية
◄ من يملك المعرفة التقنية يملك السلطة والنفوذ والمال ويحجز موقعًا بين الأمم
على مَدَار التاريخِ الإنسانيِّ، والحضارةُ البشريةُ تشهدُ تطوُّرات متلاحقة، تعكسُ زيادةَ الوعي الإنساني بقُدرته على الإبداع والابتكار، وإتقانه لهذه الابتكارات؛ فقد تطوَّرتْ الحضارة البشرية عَبْر مراحل ثلاثة؛ زراعيَّة، ثمَّ صناعيَّة، ثمَّ تكنولوجيَّة.. وهي المرحلةُ التي نعيشها الآن منذ عُقودٍ قليلة، لكنَّ هذه المرحلة الثالثة شهدتْ تطوُّرات مُتسارعة لم يَسْبِق لها مثيل، وباتَ منحنَى المعرفة البشرية يتضاعَف تقريبًا في الوقت الحالي كلَّ سنة أو سنتين، حسب تقديرات بعض العلماء، بعدَما كان يتَضَاعف كل قرن ونصف القرن تقريبًا.
هذا يعنِي أنَّ التطورَ التكنولوجيَّ لن ينتظرَ المتأخرين عن اللحاق بالركب، بل رُبَّما يضعهم في مكانةٍ خارج المسار الحضاري، ومن المُحتمل ألا يتمكَّن هؤلاء من العَودة إلى المسار، ولو بعد حِين. ومسألة التطوُّر المعرفي -ومنها التطوُّر التكنولوجي- ظلَّتْ محلَّ اهتمام الكثير من العلماء والباحثين في العلوم الإنسانية؛ لدراسة مدى تأثير التطوُّر التكنولوجي على الصراع العالمي؛ إذ يتبيَّن أنَّ هذا الصراع قائمٌ -في جانبٍ رئيسيٍّ منه- على التنافس على التكنولوجيا، ولنا في الحرب التجارية المستعرة حاليًا بين الولايات المتحدة والصين خير مثال.
فجُذُور ومُسبِّبات هذه الحرب ليستْ وليدةَ اللحظة، أو نتيجة لسياسات الرئيس دونالد ترامب الشعبويَّة بالكامل، بل تعُود إلى فترةِ الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون، الذي أطلقَ "مبدأ جوام" أو ما يُعرف بـ"مبدأ نيكسون"؛ بدعمٍ من وزير خارجيته آنذاك "الثَّعلب" هنري كيسنجر، ويستندُ هذا المبدأ إلى فكرةِ "احتواء" الدول الكبرى في آسيا عبر أدوات اقتصادية أمريكية، بدلا عن الأدوات العسكرية التي تبيَّن فشلُها الذريع، خصوصًا في حرب فيتنام التي كانتْ مُستنقعًا للقواتِ الأمريكية. وهذا "الاحتواء" يتمثَّل في دعمِ دول آسيا باعتبارها اقتصادات نامية، ومن ثمَّ انخراطها في منظومة التجارةِ العالميةِ عبر اتفاقياتٍ تُشجِّع حركة الاستيراد والتصدير في هذه البلدان؛ لتأتي مرحلة لاحقة "تتعولَم" فيها هذه الدول، وتخرُج من شرنقة "المد الشيوعي" الذي طالَ مُعظم دول آسيا في تِلك الحقبة من تاريخ العالم، وكان الهدفُ المرجوُّ إضعاف الاتحاد السوفييتي (وقتئذٍ) ومحاصرته كجزء من إرهاصات الحرب البادرة. وللمفارقَة، أنَّ هذه الحرب في الكثيرِ من جوانبها كانتْ قائمة أيضًا على الصراع التكنولوجي، ووصلَ صَدَاها إلى الفضاءِ والصواريخ... وغيرها من التقنيات التي ابتكرَها الإنسانُ ليس خدمةً للبشريةِ، بقدر ما كانتْ مُنَافسة بين أقطابِ ذلك العالم ومحاولات السيطرة والهيمنة على مُقدِّراته بأيِّ وسيلة كانت.
ومع تطوُّر الصين، وانفتاحها على العالم الغربي، نجحتْ في بناءِ نموذجٍ اقتصاديٍّ متين، يقومُ على الأيدي العاملة الهائلة، والإنتاجِ الضخم، والابتكار التكنولوجيِّ، وهذه العناصر الثلاثة هي التي مكَّنت الصين من احتلالِ مكانةٍ متقدمةٍ في مَسِيرة نموِّها الاقتصادي، حتى باتتْ تنافس الولايات المتحدة على صَدَارة الاقتصاد العالمي، وتحوَّل التنين الصينيُّ إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر دَائن للولايات المتحدة، وعملاقٍ اقتصاديٍّ لا يُشق له غبار على الساحة الاقتصادية العالمية. المُثير في قضية التقدُّم الصيني أنَّ الغربَ -بقيادة أمريكا- عندما سعى لإدماجِ النظام الاقتصادي الصيني في المنظومة العالمية، لم يُدرِك جيدًا حجمَ التفوُّق الصيني الذي سيتحقق خلال عقود قليلة؛ إذ كانَ التركيز منصبًّا على كيفية عَزل رُوسيا وشيوعيتها؛ باعتبار ذلك الخطر الأعظم الذي كان يُهدِّد العالم في تلك الحقبة. كما أنَّ الاقتصادَ الأمريكيَّ -ورغم كونه الأكبر في العالم، إلا أنه- استفادَ أشدَّ استفادة من النمو الصيني، فرُخْص العمالة، وانخفاض التكلفة الإنتاجية، من العوامل التي ساعدتْ الشركات الأمريكية والغربية بشكل عام على تحويلِ عملياتها الرئيسية إلى الصين، واستفادتْ هذه الشركات من الميزات التصديرية الممنُوحة للصين؛ في إطار منظومةِ التجارة العالمية. لكن في تلك اللحظة، قفزتْ الصين ووثبتْ إلى القمَّة، وتفوق "التلميذ" على "الأستاذ"، وباتتْ التكنولوجيا الصينية هي السائدة، وتفوَّقت على الجميع؛ بما في ذلك أمريكا -مهد التكنولوجيا في العالم- فالمختبرات البحثية المتطورة لشركات مثل هواوي وأوبو وجاينت -أكبر شركة دراجات في العالم- تتفوَّق الآن على شركات وادي السيليكون الأمريكية؛ مثل: آبل!
إذن؛ نحنُ أمام حربٍ ظاهرُها اقتصادي وباطنُها تكنولوجي سياسي؛ فالظاهر أنَّ الولايات المتحدة استفاقتْ فجأة على القفزة الصينية؛ فارتجفت أطرافُها وتعرَّقت رُعبا؛ خشية أن تَقضِي التكنولوجيا الصينية على الهيمنة الأمريكية، ومِمَّا زادَ المخاوف الأمريكية نجاحُ الصين في تكنولوجيا الجيل الخامس "G5"، وتمكُّن شركة هواوي من تقديم خدمات الجيل الخامس في بريطانيا و20 دولة أخرى على الأقل حول العالم. هُنَا، ثارتْ ثورة أمريكا، وخرج علينا ترامب بقرارات شعبوية وابتزازية للصين، واتِّباع سياسية العصا: "إما... أو...".
فتكنولوجيا الجيل الخامس لا ترتبط وحسب بمسألة سُرعة الإنترنت، بل لأنَّ مُستقبل التكنولوجيا خلال العقود المقبلة سيعتمدُ كليًّا على هذه التكنولوجيا المتقدِّمة، من إنترنت الأشياء إلى التكنولوجيا الحيوية إلى البلوكتشين... وغيرها الكثير. هذه التقنية الحديثة ستمنح من يَملُك ابتكارها وتشغليها وتطويرها، الهيمنةَ الحقيقية على العالم، وهُنا منبعُ الرُّعب الأمريكي من الصين، إنَّها التكنولوجيا وليست التجارة؛ فمُنذ متى والولايات المتحدة تدخُل في معارك تجارية، هي في الأصل صِرَاع على الهيمنة، وسيلتُه الأولى والرئيسيَّة التكنولوجيا، وذخيرة هذا الصراع تعتمدُ على ما يُحققه الطرف الآخر من تقدُّم تقني لا يسبقُه إليه أحد. لذلك؛ نَشَأ مصطلحٌ عبقريٌّ في السنوات الأخيرة وهو "اليقظة التكنولوجية"، الذي يُشِير بوضوح إلى المُراقبة الدَّائمة للتطور التكنولوجي، وكيفية التحكُّم فيه والتنبؤ به قبل أن يَصِل إلى الأطراف المنافسة، وهذا ما تفعلُه الولايات المتحدة مع الصين، مُنذ أن تلقَّت صدمةَ الصعودِ الصينيِّ؛ فبدأت في تحجيمِ هذا التطوُّر، تارة عبر عقوبات أو رسوم جمركية، وتارة أخرى عبر ادعاء حقوق ملكية فكرية.
وفي خِضَم هذا الصراع التكنولوجي العالمي، ينبغِي أن ننظرَ إلى واقعنا في السَّلطنة، وأنْ نعملَ على تقييمه؛ من أجل بناءِ إستراتيجيات واضحة تَضْمَن لنا اللحاقَ برَكب التقدُّم، ليس فقط من حيث المعرفة، كأنْ نكُون على اطِّلاع بما يحدث من حولنا، أو نُضمِّن التكنولوجيا في مناهجنا الدراسية، لا.. ليس ذلك كل شيء، بل الأهم من ذلك: أنْ نكُون مُنتجِين للمعرفة، وأنْ نملكَ القدرة على طرح منتجات تكنولوجية تخدُم مُجتمعنا والعالم. ولن يتحقَّق ذلك سوى عبر تبنِّي الأفكارِ الابتكارية التي يطرحُها شبابنا في مُختلف المحافل المحلية والدولية، وهُنَاك بالفعل كوكبةٌ من الشبابِ العمانيِّ المثابِر أثبتَ جدارةً في هذا المضمار، ومنها أفكارٌ تحوَّلت إلى مشاريع رائدة. لكن يبقَى أن تُتَّخذ خُطوات أكثر عمليَّة على الأرض؛ مثل: إنشاء مركزٍ للطاقة الشمسية، وتكثيف الاهتمام بالتعليم التقني عبر برامج دراسية تمنحُ الطالبَ المعارف المستقبلية، لا أنْ يُدَّرس له تاريخ الحاسب الآلي!! نأمَل التوسُّع في الحاضنات الذكية، وأنْ يُسهم القطاع الخاص بالجزء الأكبر في تمويل الأفكار الابتكارية التي تطرحها هذه الحاضنات، ودعم تحويلها إلى مشاريع ناشئة؛ فلا يَكْفِي أنْ تكون لدينا مسابقة رائدة مثل مسابقة "آب جريد" لتحويل المشاريع الطلابية التقنية إلى شركات ناشئة، دون أنْ نُؤسِّس منظومةَ تمويل حقيقية تُوفر الدعم المادي لهذه الشركات، ودُون أن نطرحَ تخصُّصات أكاديمية تخرِّج طلابا مُؤهَّلين لسوق العمل المتطوِّر القائم على التكنولوجيا. نُريد أنْ نَرَى نموذجَ "واحة المعرفة مسقط" في مختلف المحافظات، أنْ يتمكَّن الطالب في محافظة الوسطى أو مسندم أو البريمي أو الظاهرة من الحُصُول على المناخ الداعم للابتكار، لا أن نركزَ اهتمامنا على محافظة واحدة أو اثنتين.
وأخيرًا.. إنَّ صُعودَ وهبوطَ الأمم في دورةِ الحضارات، يعتمدُ بالأساس على مَدَى امتلاكِها للتقنيات الحديثة، بجَانب عَوَامل أخرى؛ مثل: التاريخ، والجغرافيا السياسية.. ونحنُ في السلطنة نملكُ المقوِّمات لذلك؛ إنَّنا نعيشُ عصر الابتكار العلمي بامتياز، والتطوُّر المعرفي القائم على التكنولوجيا، فمَن يملك المعرفة التقنية يملك السلطة والقوة والنفوذ والمال، ويحجز له موقعًا رياديًّا بين الأمم.. فهل نحُن مُستعدون؟!