المعتصم البوسعيدي
كانت في الزمن البعيد مجرد قرية صغيرة يطلق عليها اسم "راقودة"، فمر بها يوما رجل فاتح يُدعَى "الإسكندر الأكبر"؛ حيث وقع مُغرمًا بها، أسيرا لجمالها، وراغبا في تخليد اسمه على بابها؛ فأعطَى أوامره إلى المهندس "دينوقراطيس" لتشييد مدينته الحالمة، فكانت الجميلة الفاتنة مدينة الإسكندرية، عروس البحر الأبيض المتوسط.
وحين بَنَى "البطالمة الإغريق" معالمهم الحضارية كمكتبة الإسكندرية والمنارة العجيبة؛ أصبحتْ الإسكندرية حاضنة للعلوم والفنون والثقافة، ومقصدا للعلماء والأدباء والفلاسفة، ثم توالت القرون والدول، وتحطمت المنارة بزلزالٍ لم يراعِ نُورها الساطع، وبعدها وبالتحديد في منتصف القرن الخامس عشر أقيمت على أنقاضها قلعة السلطان "قايتباي" المنيعة، ولم يبقَى من المنارة سوى قصتها في سجلات التاريخ ورواة الحكايات القديمة.
الإسكندرية مدينة تجمعُ بين ماضيها التليد وحاضرها البهيج، فيها يسكن الناس بروحٍ مسالمة تنتصر -كحال المصريين دائما- للابتسامة والأمل رغم كل الجراحات، وقد طاف في نواحيها أعلام شهيرة في مختلف المجالات وصنوف المعرفة. وفي عالم الرياضة لا صوت يعلو هناك -في اعتقادي- على صوت صاحب المقولة الشهيرة "لا من ديني ولا من أخلاقي" هذا الذي قاده القدر إلى لعبةٍ أحبها كوردةٍ وأحبته كزهر، وشرب من كأسها مر الاجتهاد كما شرب حلاوة النصر، جمع في خزائنه ألوانًا متعددة من الميداليات وصلت إلى 31 ميدالية؛ منها: 13 ميدالية ذهبية، لم تكن لتساوي "جناح بعوضة" أمام فضية تحصَّل عليها في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984م.
بطل محطتنا هذه المرة إسكندراني الهوى، عربي الهوية، مسلم العقيدة، إنساني الحياة، نال شهرته التي لم يسعَ إليها من تصرفٍ كان على سجيته وتربيته الحسنة، وقف على أعتاب كتابة التاريخ لنيل ميدالية ذهبية سهلة المنال، لكنه آثر أن يلعب بنزاهة النبلاء وخسر الذهب المادي، لكنه كسب الذهب المعنوي الذي لا يقدر بثمن؛ حيث يحيلنا الزمن إلى نهائي الجودو مع بطل اليابان "ياماشيتا" الذي أصيب في نصف النهائي إصابة بالغة كان بها أضعف من أن يفوز لو كان بطلنا محمد رشوان لعب على إصابة منافسه؛ الأمر الذي لم يفعله رغم مشروعية ذلك، وحين خسر وسأله الصحفي في المؤتمر، كانت إجابته مقولته الشهيرة التي دوى معها التصفيق ورفعت من أجلها القبعة، وانحنى العالم المثالي إجلالا واحتراما؛ فقد وجد أحد قدواته العظام.
الحياة للبطل محمد رشوان بعد هذه المباراة ليست كالحياة قبلها، فقد حصل على أرفع الجوائز الأخلاقية من الدول والمنظمات الدولية واللجنة الأولمبية والصحف التي صنَّفته كأحد أعظم عشرة شخصيات في العالم للروح الرياضية حسب ما جاء في صحيفة "ليكيب" الفرنسية الشهيرة عام 1989م، وقد كان لتصرفه -أيضا- دور كبير في إسلام العديد من الناس وبحثهم عن هذا الدين الذي ألبس محمد الخلق الرفيع، حتى إنَّ زوجته اليابانية كانت أحد أولئك الذين أسلموا؛ فأرتبط بها بالوثاق المتين.
لقد حَاز محمد رشوان مكانة عالية خاصة في اليابان بلد البطل المنافس والمتوَّج بالذهبية؛ حيث استقبله اليابانيون استقبالَ الملوك ومنحوه أعلى أوسمتهم "وسام الشمس المشرقة"، وبادلوه الحب حبًّا كبيرا، وبات أحد بوابات التواصل الحضاري بين مصر واليابان، علما بأنَّ اليابان تعتبر بلدَ المنشأ لرياضة الجودو التي أسسها "جيجورو كانو" والمستمدة من الفن القتالي "جيو جتسو"، وفي فلسفة الجودو مبدآن عميقان: التعاون والتفاهم المشترك لسعادة الجميع، والاستثمار الاقتصادي للعقل والبدن" وهما -لعمري- يتجلَّيان في البطل محمد رشوان وينضحان من روحه المتألقة.
حريٌّ بنا أنْ نُعِيد صياغة الواقع، وإعطاء الأبطال الحقيقيين فُسحة من التأثير الإيجابي بين الأجيال، والعناية بتقديم المحتوى القيمي عوض الغث المنتشر في الجسد العربي السقيم. لقد ذكر بطلنا محمد رشوان في أكثر من مناسبة أساس النجاح الذي وصل إليه في لعبة الجودو؛ حيث الحب والشغف، والزمن الذي كان يتحرك بهم ويحركونه بالتقارب والود والسلام، ولئن اندثرت منارة الإسكندرية -أحد عجائب العالم السبع- فإنَّ بطلنا الملهم يعد منارة إسكندرانية مشرقة، يجب أن تظل مرشدةٌ لكل الرياضيين وهم يمخرون عُباب التحديات، وأن لا يسعوا إلا لثبات ذاتهم، فالشهرة الحقيقية هي من تأتي لك لا من تطلبها، ولنا في محمد رشوان الشاهد والدليل.