ميثاق الركابي.. وحزنها الذي ينبت جنوباً

...
...
...


وسام عبد الحق العاني | شاعر وكاتب عراقي

تسفتح الكاتبة ميثاق الركابي، التي صدر لها ديوانان شعريان لحد الآن، روايتها (الحزن ينبت جنوباً) الصادرة هذا العام عن دار العراب للطباعة والنشر والتوزيع، بمشهد زيارة البطلة لزقّورة أور إحدى أهم الآثار السومرية التي مازالت تشمخ بإصرار عظيم على أرض الجنوب، في إشارة عميقة الدلالة، تؤسس للفكرة الرئيسية للرواية وتمهد لعقد المقارنة المطلوبة في ذهن القارئ، بين (حياة) الجنوب أيام السومريين و (حياته) المعاصرة بما تحمله من تشوهات مجتمعية ما تزال تحفر عميقاً في وجدان الإنسان الرافديني. ولا يستغرق القاريء وقتاً طويلاً ليقف على أعتاب هذه الدلالة، من خلال الدخول المباشر إلى حياة بطلة الرواية، بتفاصيلها المأساوية، وحزنها الجنوبي الذي يستمد طاقة عناده في بيئة ترزح تحت سياط السلطتين الدينية والقبلية، بمزيج من رغبتي الألم والأمل، ليستأثر، وبقصد مسبق من الكاتبة، بمكان كامل في عنوان الرواية.
يحسب للكاتبة ميثاق الركابي جرأتها في طرح موضوع ظلم المرأة في المجتمع الجنوبي الذي تسيطر عليه في العقود الأخيرة سلطة رجل الدين ورجل القبيلة، وربما تكون هذه الجرأة هي العنصر الأهم في الرواية إذا ما تناولناها ضمن سياقاتها الزمانية والمكانية، حيث تتغول السلطة الذكورية تارة تحت عباءة الدين وتارة أخرى تحت عباءة القبيلة، في ظل تراجع حاد لسلطة الدولة والقانون. وتستمر الكاتبة في الولوج إلى عالم الفظاعة الذي يحيط بامرأة الجنوب، ابتداءً من دائرة الأقربين أحياناً، في إشارة إلى رمزيتها كنواة لمجتمع ذكوري يتمادى في فرض سلطة قمعية تمتهن كرامة المرأة وتسلب حقوقها، ولا تخفي الكاتبة انحيازها للمرأة على مر أحداث الرواية، لكنها لا تتردد أحياناً بالإشارة إلى سلبية المرأة التي جعلتها، ليس فقط تخسر الكثير من حقوقها، بل تؤصل لهذه الخسارة لدى الأجيال القادمة بإشاعة ثقافة الاستكانة والخنوع، مما يزيدها فداحة. كما تقدم الكاتبة دفاعها عن مدَنية (الناصرية) من خلال إشارات كثيرة عن تأريخها وتفاصيل تأسيسها وبنائها وعن الحياة المدنية التي كانت تسيطر عليها قبل أن تسقط أسيرة في أغلال الريف بعد معركة ضارية بين البداوة الحضارة كما يسميها علي الوردي، ولم يفتها أن تختم المشهد الأخير للرواية، وبقصدية واضحة، على صورة عودتها إلى الناصرية، وإلى ريفها تحديداً، بصحبة حبيبها المغترب في إشارة واضحة إلى التعلق بهذه المدينة وإلى الإصرار على الإنطلاق بحياتها الجديدة من الناصرية، وربما المشاركة في إعادة الروح المدَنية إليها، والتي ستكون كفيلة في إيقاف اضطهاد المرأة وشطب حزنها الجنوبي من قاموس (حياتها) .
تفرد الكاتبة الكثير من صفحات الرواية لتقدم دروساً مؤثرة في الدفاع عن الحب حتى آخر نبضة قلب، باعتباره جوهر الوجود الذي تدور حوله الذات الانسانية برغبتها العارمة في البحث عن السلام الداخلي، كما وتستعين بكل مهاراتها اللغوية لتكتب نصوصاً أقرب إلى الشعر، تنفذ بها إلى قلب القاريء ليستشعر معها عظمة الحب وجدواه في مقاومة الحزن. وقد نجحت إلى حد ما في سحب القاريء إلى منطقة الشعر التي تجيدها بحرفية عالية، لذا نجد أن شخصية الشاعرة لدى ميثاق الركابي أكثر حضوراً من شخصية الروائية، وهذا ما أفقدها أحياناً، في وجهة نظري، السيطرة على تقنيات السرد الروائية المعروفة، لتبدو متراجعة لصالح روح الشعر. ومن هنا تمضي الرواية على مدى ثلثيها تقريباً بقارب الشعر، وربما بدون دراية الكاتبة، لتتحول إلى مجموعة من نصوص الشعر النثرية الرزينة، يربطها رابط الرواي العليم الذي يحضر ويغيب بدون مقدمات، ثم تعود بعدها إلى السرد في محاولة أخيرة للإمساك بعناصرها الروائية.
تلجأ الكاتبة بشكل كبير إلى الحوارات الطويلة (والماراثونية أحياناً) لتوظيفها كإحدى أدوات السرد في كثير من مشاهد الرواية، خصوصاً تلك التي تجمع البطلة (حياة) بشخصيات أخرى، لكنها لا تلبث أن تعود من خلالها إلى منصة الشعر وكأنها تعجز عن السيطرة على زخم تدفقها الشعري، حيث نتلمس بسهولة أن أكثر الحوارات كُتبت بنفس شعري مسرحي أو درامي في بعض الأحيان. والملاحظة الأخرى أن أغلب الشخصيات بدت وكأنها تتكلم في حواراتها بلغة واحدة تتشابه فيما بينها ثقافياً إلى حد كبير، إلى درجة يصعب فيها التمييز أحياناً بين أي شخصيتين داخل الحوار، مما يجعلنا نظن أن الكاتبة تفرض لغتها على شخصياتها.
رواية الحزن ينبت جنوباً هي قطعة شعرية رومانسية خالصة وكُتبت بروحية الشاعرة لا الروائية، وطغى الأسلوب الشعري المسرحي على كثير من الحوارات التي كانت هي العمود الفقري للرواية، وهذا يعود ربما إلى قوة الشخصية الشعرية لدى ميثاق الركابي وحضورها الفعال في ذهنها وهي تكتب الرواية، لكنها في النهاية أنتجت لنا رواية بطعم الشعر.

 

تعليق عبر الفيس بوك