حزامة حبايب في "مخمل" تنتصر بالخيال على قسوة الواقع (1 - 4)


أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

أولاً ـ حكايات الرّواية وقضاياها:
تحكي حكاية "مخمل" للرّوائية الفلسطينيّة حزامة حبايب عن حوّا، المرأة التي خرج أهلها مشردين من فلسطين؛ ليحتويهم مخيم البقعة في الأردن: عاشت طفولة مريرة، في أسرة فقيرة، وأجبرت على ترك المدرسة، فتعلمت الخياطة، وساعدت العائلة، وأُجبرت على الزواج من نظمي "السرسريّ الأزعر"، وانتهى الأمر بطلاقها الذي فكّ أسرها، فبكت بكاءً مريراً "لأن الأشياء الجميلة تأتي متأخرة، بكت لأن نظمي كان يمكن أن يسطو على حياتها عمراً أقل، بكت لأنّه كان يمكن أن يمتطي لحمها قدراً أقل، بكت لأن المرارات التي أثخنت قلبها، كان يمكن أن تكون أقلّ بكثير"، ص296.
أحبّت حوّا رجلاً آخر هو منير الذي يشاركها عشق القهوة والمطر وفيروز، ووعدها أن يبني بيت زواجهما في عين الباشا، غير أنّ هذا الوعد لم يتحقّق؛ لأنّ أخاها عايد الذي كانت تحمية ببدنها من سياط أبيه، وابنها قيس الذي رعته رغم انحرافه مع عايد، قررا ألا يسمعها دفاعها عن عشقها؛ إذ أنهى ابنها قيس حياتها مطلقاً عيها النار من مسدس، بينما كانت مشغولة طولَ نهارها، وسنوات من حياتها قبل ذلك، بإعداد الأرز والدجاج وكرات الكفتة والبامية له ولأخيها: "تنزلق يدها فوق بطنها. تغوص في سائل ثخين. تفتح كفها فترى دماً أغزر كثيراً من الدّم الذي ينفر من أصابعها التي تُشكّ بالإبر والدبابيس. صليل ماء يملأ أذنيها، يتداخل مع صراخ [والدتها] رابعة الذي يأفل تدريجياً"، ص355.
لم يفكر قيس ولا خاله عايد فيمن سينفق عليهما بعد قتلها، ولا فيمن سيطعمهما، ولا فيمن سيرعى جدّته رابعة من بعد أمه، فقد تم اتخاذ القرار بقتل قصة الحبّ الحقيقي الذي عاشته قبل أن يُثمر زواجاً وحياة سعيدة.
هذه، باختصار، حكاية الرواية الأصلية التي تنمو على شجرتها ـ إضافة إلى حكايات أقلّ أهمية ـ حكايتان فرعيتان، الأولى حكاية "قمر"، والثانية حكاية "درة العين"؛ حيث تتوافق الأولى مع أجواء الانكسار التي تحكم الرواية؛ فيما تشكّل انتصاراً استثنائياً للحب.
حكاية قمر (ست قمر التي تعلّمت حوّا الخياطة عندها)، هي حكاية صبية يتيمة جاءت من الشام إلى إربد بعد أن تعلّمت فنون الخياطة على يد آرتين، وبعد أن عانت من غزوات قاسم بيك. وفي إربد فَتَنَت الحاج فيصل وابنه، غير أنها تزوجت الأب الذي أحبته، على الرغم من أنّ لديه ستة عشر ولداً وسبع بنات واثنين وثلاثين حفيداً. وعندما مات الحاج فيصل لملم أبناؤه وبناته حاجياتها القليلة ومصاغها وحصتها من الإرث وطردوها، فرحلت من إربد، بعد أن أخذت معها "طقم روميو وجولييت" الذي اشتراه لها المرحوم. إلّا أن خيبتها لم تقف هنا؛ إذ إنه في مساء أيلولي بعيد؛ حيث "عشرات الجثث المتفسخة للفدائيين تركت في الطرقات لتنهشها الكلاب"، ص255، لجأ غسان إلى بيتها، وهو فدائي، ومهندس كهرباء سابقاً، وبقي عندها أسبوعاً، تعرّفت إلى الإنسان فيه، غير أنه خرج، ولم يعد، مع أنه قال لها: "راح أرجعلك"، ص283، وقد ظلّت تنتظر عودته سنوات طويلة، وماتت وهي ترتدي المخمل الأسود الذي شهد لقاءهما الحميمي قبلَ أن يبتلعه الغياب.
وأما حكاية "درة العين" فهي نقيضة لانكسار حبّ حوّا:  طالبة رآها فارس عائدة من المدرسة، وهي تأكل الآيسكريم، فلحقها حتى بيتها وأخبرها: "احسبي حسابك راح تكوني إلي"، ص97. وقد أحبته وأحبّت جرأته، وفي اليوم التالي أرسل أمه لخطبتها، فرفض أهلها، ثم صار يعتلي سطح بناية قريبة، ويصرخ: "أنا بحب درة العين وبدي أتجوزها"، ص98، فضربه أخوتها. وحين تحسنت حالته عاد سيرته الأولى، فطعنه أحد إخوتها بسكين، وقال لأمه التي أردات منه أن يشكوهم للشرطة: "معقول يَمَّه أشكي ع نسايبي؟"، ص99، وحين تحسنت صحته بلّل نفسه بـ "الكاز" أمام منزلهم، ثم هدّد بإحراق نفسه. فتدخل العقلاء، وتمّ كتب الكِتاب، وفارس مبلّل بالكاز، وفي يده الولاعة، ثم تمّ الزواج بعد عام من حادثة الكاز: "في أيام البهجة تلك، كان من الصعب أن يغفل المرء عن استشعار تلك النشوة الجماعية المتأتية من انتصار الحب، ولو لمرة واحدة في التاريخ"، ص100.
وقد قُدّمت الحكاية الرئيسية والحكايات الفرعية في إطار مرجعي مجتمعي يعيش أزماته التي يعدُّ الفقر أقّلها سوءاً، وإذا كان التنظير الأيديولوجي السياسي والاجتماعي قد غاب عن حكاية الرواية الرئيسية فإنه لم يغب عن خلفيتها: ثمة معالجة غير مباشرة للنكبة الفلسطينية التي أنتجت الشخصيات، بينما ظلّت تلك النكبة غائبة أو مطوية في خلفية المشهد.
لقد عاشت حوا، ومعظم شخصيات الرواية تحت وطأة السائد الاجتماعي والديني، فعانت مثلما عانى غيرها من هذه الوطأة، وما يترتّب عليها من مواقف. فبلوغ المرأة الذي يعدّ تطوراً بيولوجياً طبيعياً يشكّل بالنسبة لرابعة (والدة حوّا) مصيبة المصائب، حيث ارتعبت والدتها، لأنها  ـ بضغط من مجتمع يرى البلوغ عاراً وسرّاً مُخجلاً،  لا تريد لابنتها أن تغادر عتبة الطفولة: "(شو هالمصيبة يا ربي).. ظلّت تردد لنفسها وهي تجرجر قلبها المتثاقل في الطريق"، ص ص 19ـ20.
كما عانت حوّا من أشكال التحرّش الجنسي، و"لم تسلم من كل أشكال المحاسسة والاحتكاك والتفعيص لمجندين وطلاب كليات وعمال وحتى (الكونترولية) الصبية، إذ يلامس أحدهم مؤخرتها بفخذه المرتجفة أثناء صعودها الحافلة، أو يدعي ارتطام ذراعه دون قصد بثديها عند نزولها"، ص42.
وتبدو قضية التحرش من القضايا التي تثير حفيظة الروائية، فتركز عليها، ولا تغفل عن التحرش العائلي الذي يعد أبرز وجوهها البشعة كما سنرى لاحقاً؛ فالحافلة على سبيل المثال فرصة لمعظم الرجال الذين يبحثون عن حلول مؤقتة لعُقد مهيضة الجناح؛ فإذا "اهتزت الحافلة في التجاوز والوقوف وتعاطي السائق مع مفاجآت الطريق بطيش، فإن في ذلك فرصة في الغالب لرجالات الحافلة لادعاء اختلال التوازن والاحتكاك بما تيسر من أطراف النسوة الظاهرة اللائي يجتهدن ويجاهدن في جعلها ضامرة أو مطوية"، ص42.
في ظلّ قسوة هذا السائد الاجتماعي ينشأ النفاق الديني الذي قد يكتفي من الدين ببعض مظاهره (كالحجاب)، وقد يوغل في التطرّف ليحوّل البشر عن جادة النبل الإنساني إلى معاداة الآخر؛ فقد صورت حزامة حبايب الظاهرة الأولى من خلال مظهر المحجبات اللائي يسعين إلى إبراز أنوثتهن بما تيسّر لهن؛ حيث "يبالغن في الاعتناء بمكياجهن أو إضافة إكسسوارات لافتة وبراقة على هندامهن، كأحزمة جلدية عريضة أو طبقات من سلاسل فضية أو ذهبية أو مرصّعة بالخرز الرخيص، فيظهرن في هيئاتهن المدندشة المؤطرة بحجابات إلزامية كالرسومات الفجة"، ص40. كما صورت حزامةُ الظاهرةَ الثانيةَ بجرأة، فراحت تسرد رعب حّوا من هيئات رجال المخيم؛ إذ "لم يقتصر الأمر على لحى شعثاء، مخضبة، غير مهذّبة، ووجوه عابسة، وإنما هناك اللباس الغريب والكلام المغمغم الذي يطلقونه حواليهم حين تمر بهم في الشارع أو في السوق"، ص143.
والمشكلة الكبرى التي تشير إليها الروائية أنّ هؤلاء ينامون باطمئنان على وسادة المجتمع المريحة، مستندين إلى تديّن فطري فيه؛ إذ احتفل مخيم البقعة قبل أكثر من عشرين عاماً بعودة المجاهد البطل أبي عبادة، بعد أن جاهد في أفغانستان وقتل كثيراً من الكفار، وعاد إلى المخيم بمال كثير؛ ليفتتح فرعين لمركز تحفيظ القرآن: واحداً للذكور وواحداً للإناث، وليتزوج مثنى وثلاث ورباع. وعلى الرغم من أن حوّا تدرك بوعيها الفطري أنّه"تيس هرم"، فإن هذا الوعي يصطدم بالسذاجة الجمعية التي ترى فيه فحلاً يمدّه الله بقوة لا حدود لها: "(هاظا التس يلي مش عاجبك بعشّر نسوانه تشلّهن بليلة وحدة) قالت لها أم سعيد داحضة وجهة نظرها غير الصائبة إزاء أبو عبادة، وأكدت أن الله يضع في رجل مجاهد، مؤمن صنديد من أمثال أبو عبادة بأس مئة رجل؛ فلا تخور ذكورته، ولا تضمحلّ طاقته، ولا تشبغ رغبته، أو تسدّ نفسه، مهما أتى من النساء"، ص146.
أما نساء أبي عبادة فقد غزون سوق العرائس، وانتقين أكثر الملابس الداخلية إثارة، وخصصن لزيارات "عزيزة" غرفةً من مركز تحفيظ القرآن، "فيها طاولة تدليك، وكرسي برافعة شبيه بكراسي صالونات التجميل، وطاولة تسريحة انتصبت فوقها مرآة كبيرة، وغاز بثلاثة عيون. فكانت عزيزة تطهو معجون الحلاوة وتمعطهنّ تباعاً"، ص147.
إنّ هذه الرواية تمثّل من خلال حكاياتها المتداخلة وقضاياها المطروحة وثيقة تسجّل واقعاً نخره سوس العادات الاجتماعية البائسة والتمظهر الديني الذي اكتفى من الدّين بشكلياته. غير أن ما تقدّم ليس إلا قراءة مضمونية لا بدّ منها؛ حتى يتم وضع القارئ في إطار الرواية العام قبل الانطلاق إلى التحليل الفنّي.
(يتبع...)

 

تعليق عبر الفيس بوك