نحو تعليم ديني متصالح مع العالم (1)

 

 

د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري *

التعليم الديني له الإسهام الفاعل والكبير في تشكيل "وجدان" المسلم، وصياغة "عقله" وتوجيه "سلوكياته" و"مواقفه" تجاه مجتمعه ودولته، وتجاه العالم. ومن هُنا، كانت مسؤولية الدول العربية والإسلامية كبيرة في تحقيق منهج التعليم الديني أهدافه في إعداد مواطن صالح، مُتفان في خدمة دينه ووطنه وأمته، مُنسجم مع العصر وتحولاته، لا يعاني توتراً أو انفصاماً أو عزلة عن العالم المعاصر، محصَّن بقوة الإيمان والثقة بالذات ويقظة الضمير واستنارة الوعي المحصنة من أمراض التطرف والكراهية والتعصب، منفتح على الثقافات، متصالح مع العالم، مساهم في مستقبل أفضل.

الحاصل أن مناهج التعليم الديني، في معظم الدول العربية والإسلامية، لا تحقق أهدافها؛ بدليل ظواهر التعصُّب والكراهية والتطرف والفرقة والانقسام التي تسود المجتمعات العربية والإسلامية، وهذا يتطلب من المسؤولين عن الثقافة والتعليم والإعلام والمفكرين والناشطين "وقفة شجاعة" مع الذات، لمراجعة منهج التعليم الديني، وإعادة النظر فيه، من مُنطلق أنَّ المسؤولية مشتركة، والتعليم الديني أخطر من ينفرد بإعداده، جهة واحدة في الدولة، هو مسؤوليتنا جميعًا، وينبغي أن تتعاون وتتكامل جهود كافة القطاعات المجتمعية المعنية بتشكيل وصياغة وجدان وعقل المواطن وفق خطة إستراتيجية موحَّدة.

 

ما هي المضامين الرئيسية للمناهج الدينية؟

لو ألقينا نظرة سريعة على معظم المناهج والكتب المعتمدة للمعاهد والمدارس الدينية المنتشرة عبر العالم الإسلامي؛ نجد أن المضامين والأفكار الرئيسية التي تريد غرسها في عقلية ونفسية الشباب، هي "تعميق الانعزالية والكراهية في نفسية الطالب تجاه الشعوب والأمم الأخرى"؛ من أبرز عناصرها الآتي:

1- تصوير العالم بالعدو المتربِّص بالعرب والمسلمين، والذي يخطط للتآمر عليهم، لنهب خيراتهم، والتحكم في مقدراتهم، وتعويق نهضتهم وتقدمهم ووحدتهم، ومنعهم من مصادر القوة والتسلح؛ لهذا شرع "الجهاد" المستمر إلى يوم القيامة، وعلى المسلم أن يكون مهيأً للقتال في سبيل الله، في أي دولة للمسلمين تتعرض للعدوان.

2- الأمتان العربية والإسلامية مستهدفتان، دائما، بالغزو الفكري، والعولمة الخبيثة، والمدارس العلمانية والاستشراقية والتبشيرية، والأفكار الإلحادية، والعقائد الباطلة، والصليبية الحاقدة، في دينها وهويتها ولغتها وتغريب المرأة المسلمة.

3- تحريم موالاة أهل الكتاب، أو مودتهم، أو التحالف معهم؛ لأن القرآن نهانا عن ذلك: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض"؛ باعتباره جزءاً من عقيدة "الولاء والبراء"، وإذا كان المطلوب حسن التعامل معهم ورد تحيتهم، لضرورات الاحتياجات المعيشية، والسفر إلى بلادهم، فليكن ذلك تعاملًا ظاهريًّا، وعلى حذر منهم، وليضمر بغضهم في قلبه، وفق قاعدة "الحب في الله والبغض في الله".

4- عدم قبول الآخرالعقدي أو المذهبي أو الديني، فخريجو هذا النمط التعليمي لا يتسامحون مع مخالف، ودع عنك "اختلاف أمتي رحمة"، بل يُسارعون إلى تضليله وتكفيره لمجرد خلاف فقهي أوعقدي، والفضاء الرقمي يفيض بفتاوى لعلماء كبار كفروا مخالفيهم لمجرد أنهم لم يروا حرمة في التقاء الجنسين، مثلاً!

5- الحساسية المفرطة (المرضية) من حضور المرأة المجتمعي، وإسهامها التنموي والاجتماعي والسياسي؛ فالمرأة في منظور هذه المناهج لا تصلح إلا لمهمتين: حسن تبعُّل الرجل وإشباع رغباته، وإحسان تربية أولاده (الأمومة) وأعظم ما تكون المرأة قرباً من الله ما كانت في قعر بيتها، في أظلم مكان فيه! آلاف المدارس الدينية المنتشرة على امتداد العالم الإسلامي من أفغانستان إلى اليمن، إنما تستمد زادها الثقافي الديني فيما يتعلق بأحكام المرأة من كتب التراث الديني التي تتبنى نظرة غير سوية للمرأة، وأبرزها كتاب "إحياء علوم الدين"، وكتاب "الكبائر"؛ فالمرأة مجبولة على الاعوجاج؛ بسبب نقص عقلها وغلبة عاطفتها، وضعفها في اتخاذ القرار السليم والسلوك القويم، في غيبة ولاية الرجل، الذي يقوِّم سلوكها، ويحميها من الغواية والشرور، ويستر عوراتها، من يوم مولدها وحتى رحيلها.. وللحديث بقية.

 

* كاتب قطري - عميد كلية الشريعة سابقًا

الأكثر قراءة