دلائل النمو الاقتصادي

حاتم الطائي

 

حققنا أعلى معدل نمو في الناتج المحلي خلال 4 سنوات بفضل السياسات الرشيدة

مسيرة النهضة تقترب من عامها الخمسين.. وسفينة الوطن تبحر إلى مرافئ الاستقرار

استحقاق ديمقراطي يلوح في الأفق مع تعمق الممارسات البرلمانية العمانية

 

 

تُبنَى الأمم بعَزْم الرجال، وتتواصَل مسيرتُها بسواعد أبنائها من المُخلِصين، ولولا تكاتُف الجهود لما نَجَحت أيُّ أمة أو دولة في التقدُّم ولو لخُطوة واحدة إلى الأمام، ونحنُ في عُماننا الغالية، ومنذ أن أَطلق حَضْرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حَفِظه الله ورَعَاه- مسيرة النهضة المباركة قبل تسعةٍ وأربعين عامًا، ونحن نتقدَّم ونَجني ثمارَ هذا التقدُّم على مُستويات عِدَّة، ليس فقط في الجانب الاقتصاديِّ ومعيشة المواطن التي استقرَّت، وبات المواطن ينعمُ بالتنمية والرَّخاء في كل مكان، بل أيضًا على مُستويات أخرى، تتوازَى وتتماشَى في سياقٍ واحدٍ مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكنْ ثمَّة اتفاق على أنَّ النهضة الاقتصادية أساس أي نهضة أخرى؛ في إطار النهوض الشامل بمسيرة البناء.

وبمَا أنَّ لغة الأرقام أفضل طريقة لقراءة الوضع الاقتصادي؛ فبنظرةٍ سريعةٍ على أحدث الإحصائيات الخاصة بنموِّ الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة في العام 2018، نَرَى أنَّه سجَّل ارتفاعا جيدًا وَصل إلى 30.5 مليار ريال، وهو أعلَى مُستوى يتحقق في أربع سنوات؛ أي مُنذ الهبوط الحاد في أسعار النفط عام 2014، وهذا الارتفاعُ تُعادله نسبة صعود بلغت 12%، مُقارنة مع ما تم تسجيله في العام 2017، وأسهمتْ الأنشطةُ غير النفطية بنصيبٍ كبيرٍ في هذا الرقم، وضِمنَها سجَّلت الأنشطة الخدمية ما إجماليه 14.4 مليار ريال.

إنَّنا إذن أمام نموٍّ ملحوظ، على الرَّغم مما يُعانيه الاقتصاد العالمي من أوضاع وتحديات، ليس أقلها ضررًا الحرب التجارية المستعرة بين أكبر اقتصاديْن في العالم، ولا تَداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما يُعرَف بـ"البريكست"، فضلًا عن التوترات الجيوسياسيَّة في أنحاء مُتفرقة من العالم، وكذلك ما تشهدُه منطقتنا من تطوُّرات في الأحداث، تُنذر بنتائج سلبية. لكنَّ الملاحَظ -أنه ورغم ما سبق- أنَّ اقتصادَنا الوطنيَّ استطاعَ أن ينأى بنفسِه عن براثن انكماش عالمي يُحذر الخبراء والتقارير الدولية من أنَّه قد يتحوَّل إلى ركود في الاقتصاد الدولي بحلول العام المقبل 2020، وهي عَقَبة يَسْعى صُنَّاع السياسات الاقتصادية إلى تفاديها بأيِّ طريقة مُمكنة، ومنها ما يُثار عن احتمالات خَفض أسعار الفائدة في عددٍ من الاقتصادات الكبرى في أوروبا وأمريكا، وإطلاق حزمةٍ جديدةٍ من برامج التحفيز المالي التي تستهدفُ توسيعَ الأنشطة الاقتصادية في مختلف القطاعات.

الوَاقع يُشير بوضوح -لا يقبل الشك- إلى أنَّ ما اتَّخذته حُكومتنا الرشيدة -بفضل السياسات الحكيمة لجلالة السلطان المعظَّم- من إجراءاتٍ احترازيةٍ وتدابير تقشفيَّة كانت هي طَوق النجاة من أمواج الاضطرابات الاقتصاديَّة المتلاطِمة، والتي تسبَّبت في تذبذب أسعار النفط، وأضرَّت بحَرَكة التجارة العالمية، وأَحْكَمت الخِناق على الاقتصادات النامية، وعلى الاقتصادات الناشئة على وَجْه الخصوص، فضلًا عن الأضرار التي ألحقتها بالاقتصادات المتقدِّمة؛ مثل: تراجُع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، واللجوء إلى المَلَاذات الآمنة، والتي لا تنعكسُ بصورةٍ حقيقيةٍ على النمو الاقتصادي للدول.

وهَذِه الإجراءات الحُكومية عكستْ الرُّؤية العميقة للدولة في كيفيةِ التعاطِي مع أزمة تراجع أسعار النفط، وما آلَت إليه الأوضاعُ من انكماشٍ كبيرٍ في الإيرادات، في ظلِّ اعتمادِ اقتصادنا على عائدات الخام بأكثر من 80 في المئة؛ الأمرُ الذي تسبَّب في ترشيد الإنفاق الحكومي، وتوقُّف بعض المشاريع غير العاجلة، وتأخُّر تنفيذ مشاريع أخرى، إلى جَانِب ما أحدَثه ذلك من ارتفاعٍ في عجزِ الميزانية العامَّة للدولة على مَدَى 4 سنوات، مع لجوءِ الحكومة إلى سوقِ الدَّين المحلي والخارجي، واقتراضِ مليارات الريالات طَوَال هذه الفترة. ورَغْم هذه الدُّيون التي تكبَّدتها ميزانية الدولة، إلا أنَّها لم تخرج عن نطاقِ السَّيطرة، كما أنَّنا نستقرُّ في مناطق آمنة من حَيْث مُعدلات الدَّين، على عكس دول أخرى واجهتْ الأزمة نفسها، لكنَّها لم تَستطِع أنْ تَتَعامل معها بنفس مُستوى الحكمة وبُعد النظر الذي تعاملتْ به حُكومتنا، والأرقام خَيْر شاهد.. فإحدى الدول تحتلُّ صَدَارة مُصدِّري النفطِ الخام، سجَّلت ارتفاعا هائلا في العجز المالي لديها، ولجأت إلى فرضِ الضرائب ورفعِ الرُّسوم على جَمِيع الخدمات، بجانب تَقليص رَوَاتب ووَقْف ترقيات الموظفين... وغَيْرِها مِنَ الإجراءاتِ شديدة التقشفية.

ومِنْ هُنا، نصلُ إلى نتيجةٍ ساطعةٍ سُطوعَ الشمس، وهي أنَّه ورغم تأثُّر فئات المجتمع بالإجراءاتِ الحكوميَّة خلال السنوات الخمس الماضية -لا سيَّما فيما يتعلَّق بأسعار المحروقات وتكلفة شراء الطاقة- إلا أنَّها تمَّت وِفْق خططٍ مدروسة وبحرصٍ حكوميٍّ بالغ على التخفيف عن كاهل المواطنين، خاصَّة الفئات المستحِقَّة للدعم. وتمثَّلت الخطة الرئيسيَّة في توجيه الدعم الحكومي إلى مُستحقيه، وإعادة هيكلة عمليَّة التوظيف؛ من خلال تَوجِيه الشبابِ للعملِ في القطاع الخاص في إطارِ المهام المنوطَة بهذا القطاع، ودَوْره في التنمية، وتوفير فرص العمل، وأيضًا فَتْح المجال أمام قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والعمل على تمكينِ روَّاد الأعمال، عَبْر حزمةِ إجراءاتٍ دَاعِمة لهم؛ مثل: تطبيق قَرَار تخصيص نسبة 10 في المئة من المناقصات الحكومية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ونستخلصُ من ذلك نتيجةً أنَّ المواطنَ كان شريكًا للحكومة في عملية ضَبْط الإنفاق العام وتقليص عجز الميزانية؛ في ظلِّ تراجع الإيرادات العامة للدولة، ولولا مُشَارَكة المواطن لحكومته العبء، وتحمله مُختلف الإجراءات التي اتُّخِذت بعنايةٍ بالِغَة، لَمَا كُنا حققنا ما وصلنا إليه من إنجازٍ كبيرٍ؛ يتمثَّل في نمو الناتج المحلي في العام 2018.

يَتزامَن ذلك الإنجازِ مع اقتراب دُخُول مسيرةِ النهضةِ عامَهَا الخمسين، واحتفالنا باليُوبيل الذهبيِّ لنهضتنا المُباركة التي يقُودها بحكمةٍ منقطعةِ النظير جلالة السلطان المعظم -أيَّده الله وأبقاه- فمَن ينظرُ إلى عُمان قبل عام 1970 وما وصلتْ إليه الآن من نهضةٍ غير مسبوقة في كلِّ مناحي الحياة، يُدرِك أنَّ حجم الجهود المبذولة، والتضحيات التي قُدمت، والسنوات التي قَضَاها رجال هذا الوطن في خدمته والسَّهر على تنميته ورخائه، وأنَّ سفينة الوطن يقُودها رُبَّان ماهر نحو مرافئ الاستقرار والتقدُّم.

نَجاحُنا لم يَعُد اقتصاديًّا وتنمويًّا واجتماعيًّا وحسب، بل إنَّه نجاحٌ سياسيٌّ كذلك، على المستويين الداخلي والخارجي؛ ففي خِضَم هذه الإنجازات الاقتصادية، تتأهَّب بلادُنا لعرسٍ ديمقراطيٍّ مع بدء العد التنازلي لانتخابات أعضاء مجلس الشورى؛ مما يعكسُ عُمقَ الممارسة البرلمانية، وما وَصَلت إليه مسيرةُ الشورى العُمانية من تقدُّم، وبات المواطن -سواء كان مُرشَّحا او نَاخِبا- على يقين تام بأنَّ صوته ذو قيمة، وأنه مدعوٌّ للمشاركة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلاده، وأنَّ تجربتنا الديمقراطية برهنتْ للعالم أجمع نجاعَة سياسة التدرُّج، القائمة على التطوُّر الرَّصين وعدم القفز على المراحل أو حرقها، بل التأنِّي في كل قرار، واتخاذ كافة التدابير والحِرْص عند تنفيذ السياسات.

أمَّا على المستوى الخارجي؛ فقد أضحتْ السياسة العُمانية الخارجية نموذجًا يُحتذى في التعامُل مع مُختلف الأزمات، وما الثِّقة الدولية التي تحظَى بها دبلوماسيتنا إلا انعكاسًا لهذه السياسات الحكيمة وترجمةً للرؤية الثاقبة لجلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- التي تَسْعَى لمُعَالجة مُختلف القضايا، وفق مبادئ السلام والعدالة والتعايش. وكَمْ كَانَت الإشادة الأمميَّة مُؤخرا بالسياسات الخارجية للسلطنة، ذات مَغْزَى عميق؛ فهي من ناحيةٍ تقرُّ وتعترفُ بالدور العُماني في صناعة السلام العالمي، ورأب الصدع بين مختلف الأطراف متى ما طُلب من السلطنة ذلك، كما أنَّها من ناحيةٍ ثانيةٍ تُشير بوضوح إلى ما تُعلِّقه المنظمة الأممية -وعلى رأسها الأمين العام- من طُمُوحَات وتطلُّعات لكي تُسهم السلطنة بمزيدٍ من الأدوار الإيجابية في الحفاظ على الاستقرار والسلم العالميين.

وأخيرًا.. إنَّني أوجِّه دعوةً صادقةً إلى أبناءِ وطني وخَاصَّة الشباب، لكي يُدرِكوا حجمَ الإنجاز المتحقَّق في بلدهم، ومستوى التقدُّم الذي بلغناه، في 49 عاما فقط، هي عُقُود ذهبيَّة حقَّقت فيها بلادُنا ما لم تحققه شعوب ودول أخرى في 100 عام، فواجبكُم معشر الشباب أنْ تحملوا مشاعلَ النور والمعرفة، وأن ترفعُوا رايات النصر العُمانية في مُختلف المحافل وفي شتى المجالات، وأنْ تنطلقوا نحوَ آفاقٍ رحبة من التقدُّم والرقي، وأنتم أهلٌ لها، على الرَّغم من التحديات المختلفة التي تواجهنا.. نعم نحن قَادِرُون على التجاوز والتقدُّم إلى الأمام بفضلِ الإرادةِ والحكمةِ والمثابرةِ في بِنَاء الوطن.