رحلة قارئ

فاطمة الحارثي

 

"إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإنَّني أسأله كم كتابا قرأت؟ وماذا قرأت؟"

سقراط

---------------------

كثيرًا ما فكرت عن القيمة الجوهرية التي تعطيها القراءة للفرد، وهل الكم "اقرأ كثيرا تدرك أكثر"؟، أم الكيفية التي نقرأ بها، أو ربما نوعية رسالة وفحوى الكتاب مما يؤثر على القارئ؟ وهل التباين الفكري والبيئي بين الأفراد يعطي الاختلاف في فهم واستيعاب وإدراك الموضوع وآلية التطبيق بشكل كبير جدا؟

عندما أُمسك بكتاب للمرة الاولى استهلُّ الأمرَ بالتنقيب عن كل ما ورد عن المؤلف والمترجم إذا وُجِد؛ سواء سيرته في الكتاب أو في مباحث الإنترنت المختلفة، وبعدها أتناول وجبة الإهداء الذي كثيرا ما يرد في الصفحات الأولى؛ لغاية التكهُّن بفكر الكاتب ومعتقده، مثلا: تدبر لماذا أهدى الكتاب إلى حبيبة أو صديق، وليس أمًّا أو جدًّا -فِعل تقديم العاطفة عن صلة الدم- ثم المقدمة التي من خلالها أستطيع الإبحار في ثنايا الكيفية التي صاغ المؤلف أو المترجم فكره واستسقى بحثه في العمل الذي قدمه للناس وأهدافه ولغته أيضا، أي أنني أقرأ الكتاب ومؤلفه في آن واحد.

كُنت في السابق أنظر لشُهرة الكاتب لأحكم على جودة أدائه، بينما اليوم بات معيار التأثير إحدى أهم ركائز القياس لديَّ، إنَّ إجادة استخدام المفردات أمرٌ هيِّن، ويُمكن لأيٍّ كان أن يجتهد في ذلك، بيد أن تشكيل وتجميع تلك المفردات أمر مختلف تماما؛ لأن ذلك ما يُحدث أمرَ الإبداع ويعطي الكاتب فنَّ وملكة التأثير أي صياغة مؤثرة تلمس خيالَ وقلبَ المتلقى في آن واحد، إن أسلوب الكاتب والاستعارات والصياغة هي التي تقوم بتوصيل جوهر الفكرة وأثر الاحداث، ويُنطق الحرف الجامد والكلمات المتراصه لتنساب بسلاسة إلى ذات المتلقي؛ ليحدث التغيير والتأثير والفهم. إنَّ الغريبَ الوحشيَّ من الكلام ليس صعبًا، واستعراض قاموس اللغة في أي نص أمرٌ بسيط، لكنه الحد الفاصل بين الكاتب الموهوب والحقيقي والمتشدق المدعي. التمرُّس يُعطي استخدام أفضل، لكنه لا يشترط فيه أن يكون إبداعا؛ فجميعُنا نستطيع فعل كل شيء وأي أمر، لكن الهبة التي يمنحها الخالق هي ما تميِّز مُخرجات الأداء، وتعطي طعم الاختلاف والاستمرار وهبة الكتابة لا تختلف عن أي هبات أخرى؛ سواء فنية، أو فكرية، أو علمية، أو عملية.

إنَّ القارئ الجيد يستطيع أن يُدرك نفس ومشاعر الكاتب، ويتفاعل معه من خلال أسلوب التعبير الذي يتبعه والوقفات والعاطفة في اللغوية، فيتبين له فكره ومزاجه؛ فالأصالة والتحديث جزآن أساسيان في أية صياغة مُبتكرة؛ الإبداع أو الابتكار ليس بخَلْق أمر لم يُوجد لأن ذلك مُحال تقريبا، لكنه النظر لذات الموضوع "المُستهلك" من زاوية وشخوص أخرى، وهذا تؤكده نظرية فرويد وأنصاره في الفروق الفردية، ومنها يتبين أساس التحول من الاهتمام بعمليات "الهو" إلى عمليات "الأنا" مصدر الإبداع والوعي الإدراكي في التفكير، والتي يفسرون حدوثها في منطقة ما قبل الشعور "في نظر مدرسة التحليل النفسي ما قبل الشعور هو المادة أو الأفكار التي رغم أنها حاليا لا شعورية، فإنه يُمكن استدعاؤها لتصبح شعورية إمَّا بمجهود إرادي أو التذكر، أي أنها طبوغرافيا منطقة في العقل تتوسط الشعور واللاشعور".

جَوْدة ما تغذي به عقلك أمرٌ في غاية الأهمية، اقرأ ما تشاء ولكن احرص على أن لا يتشرَّب فكرك كل شيء؛ فهناك الغث وهناك السمين. القراءة مركبة وليس الطريقَ، أو فعلا من أجل الفعل أو البهرجة الاجتماعية، الهدف والغرض منها الاستفادة الفعلية لكل ما تقرأه ومعرفة كيفية استخدام تلك المعلومات في خدمة تطورك وأهدافك ووجودك وغيرك.

 

رسالة من الذاكرة:

الحزن حيث نهاية تنتمي لزفرة تخرج قتيلة.. أيًّها الامس الوري كالظلمة نُظمت القصائد قرابين لك، وكالنجوم تتلألأ بُكائيات لا تنتهي.. جرح مُقلم يمزق المعاصم يَئِن كطير يرغب في أن يختلي بالسماء.

الحدودُ مِسَاحة لا ترتقي لفضاءات الآخر أو لحلم رأس القلم. إنَّ المَحْبَرة التي نُورد بها بوح أفكارنا وضجيج المنفى ترفض إلا التربُّع على "لا" التي لها وهم الحرية، كوهم صديق حين سألته: هل أنت حر؟ فخال أنَّني أسأله: هل أنتحر؟ فأجاب بتلقائية: لا.