جمانة والكاروك الأزرق


كريم عبد الله | شاعر وناقد عراقي
آآآآآآآآآآآآآآآهٍ إنّهُ الحنين العميق لأحضانِ الطفولةِ الدافئة ينبشُ بقوّةٍ هذا الشيب النابتَ بعدَ الخمسين , فــ ذاكَ صوتُ أمي موغلاً في نبضاتِ الصباح كــ رنينِ الجرسِ العجوزَ في مدرسةِ (التوحيد)* البعيدة جداً يهزّهُ (العم صالح)* فــ يبدّدُ هجوعها بينَ أشجارِ النارنج وحكايات لا تنتهي, ايّةُ نشوةٍ تغمرُ الليلَ حينَ تلامسُ التعاويذَ المعلّقةِ على خيطٍ رفيعٍ تستعذبُ طردَ المرضَ والجنَّ والسحرَ والحسدَ ! و كيفَ يجتمعُ (الحرمل)* البريّ والبخور الهنديّ وآية الكرسي تحتَ الوسادة تبعثُ ابتسامة في الشفتين! التمائم كانتْ تجلو البصرَ وتستبقي أسرارها تكبرُ, لماذا للآنَ صوتُها يتردّدُ وكــ أنَّ الكروموسومات عشقتْ بحّتهُ فــ أنبسطَ على حبالِ صوتي (دللّول… دللّول يــ الولد يبني دللّول…. عدوكْ غريب وساكنْ الجول… دللّووووووول…. دللّوووووووووووووووول… لووووووول…. ووووووووووول….)* فــ يحتضنُ الازدحامَ في شرفاتِ الأحلام يتشمّمُ عطرَ (لنْكْ الدنيا)* يستطيبُ الهدوءَ في الأكياسِ الورقيّة, أينَ شلاّلات الحنانِ تتصفّحُ السنين في ترنيماتِ أمي؟ وأيُّ سعادةٍ ستورّثُ الــ (خَمْسْ فلوسْ)* حينَ تضمّها يدٌ صغيرة ترقصُ بــ غنجٍ بعدما تخرجُ بــ أبّهةٍ مِنْ جيبِ أبي في معطفهِ العسكريّ الأنيقَ تزيّنهُ الأزرارَ اللمّاعة مِنْ كثرةِ (البوليشْ)*! أرّقني كثيراً وجهكِ الضحوكَ يا (جمانة)* والمهدُ الحديث يحتفلُ بــ صوتكِ منتشياً ويسرقُ الوقتَ المعتّقَ بــ لهفةِ العيون .
***
حين احتضنت حفيدتي (جمانة) وهي في المهد غمرني حنين عنيف إلى أيام طفولتي وإلى مهدي الخشبيّ (الكاروك) باللهجة العامية العراقية, فقد كان ملوّن بالأصفر والأخضر والأبيض لكن اللون الأزرق هو الغالب.
التوحيد: مدرستي الابتدائية.
العم صالح: فراش المدرسة في ذلك الحين.
الحرمل: نوع من النباتات.
دللّول: ترنيمة عراقية تتغنى بها الأمهات على أطفالهن.
لنْكْ الدنيا: نوع من الفاكهة.
خَمْسْ فلوسْ: عملة عراقية قديمة قليلة القيمة.
البوليشْ: كان يستخدمه والدي يلمّع الأزرار به.

 

تعليق عبر الفيس بوك