علي بن مسعود المعشني
كانتْ الحربُ على الوجود السوفييتي في أفغانستان، أو ماعُرف بالجهاد الأفغاني، أولى الحروب التطبيقية على الأرض لنظرية يوزبينجو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس الأسبق كارتر، والذي خَرَج بنظرية الحروب الدينية، فتحوَّل بفضلها من أستاذ جامعي مغمُور إلى مسؤول أمريكي بارز وشخصية عالمية شهيرة في عالم النظريات والسياسة.
والحربُ الدينية في أفغانستان كانتْ تجربة ذات أبعاد كثيرة وغايات كبيرة امتدت لاحقًا إلى جغرافيات أخرى، ونالت من خصوم آخرين لأمريكا والغرب والصهيونية العالمية، بعد تبيُّن فاعليتها ونتائجها على أرض أفغانستان.
كرَّست الحرب الأفغانية في أذهان مُعَاصريها جُملة من العناوين والاستنتاجات الظاهرية كصراع الشيوعية والإسلام، والكفر والإيمان، وصراع دخيل محتل وأصيل مقاوم، وانتصار قيم الرأسمالية على الشيوعية، في سياق فصول الحرب الباردة بين القوتين العظميين، والرد الأمريكي على الدعم السوفييتي السخي لثوار فيتنام ضدها وهزيمتها النكراء فيها، ولكن ما هو غير مرئي ولا مرصود للكثير من المتابعين والمراقبين والمعاصرين للحالة الأفغانية؛ هو: الجهاد الإسلامي برعاية أطلسية غربية!! وتطبيق نظرية الضد النوعي في الحروب لتحقيق النصر.
طُوِيت حرب أفغانستان وضجيجها، وأصبحت جزءًا من التاريخ، لكنها ما زالت في حقيقتها تتأجَّج في جغرافيات أخرى كثيرة اليوم برموزها وشخوصها وكوادرها وثقافتها وغاياتها ورعاتها، لكنها بمسميات مختلفة، وقد حقَّقت نتائج مختلفة ومتفاوتة في كلِّ تجاربها اللاحقة وما زالت صالحة في نظر داعميها ورعاتها إلى حين، فكلُّ ما تحتاجه هذه الأدوات هو تغيير جلودهم وأسمائهم وكناهم فقط في كل مرحلة ومهمة وزمان ومكان.
الجهاد الأطلسي أُلبِس لبوسَ الطائفية والمذهبية للنيل من إيران والإجهاز على العراق وسوريا لاحقًا، وحمل عناوين الحرية والعدالة والديمقراطية ومحاربة "الطغاة" في جغرافيات لا تقتات على الطائفية والمذهبية كحالات مصر وتونس وليبيا واليمن، وسيحمل العنوان العرقي (عرب/أمازيغ/زنوج) في حالات مستقبلية مرشَّحة للتفجر في الجزائر والمغرب وموريتانيا؛ حيث لم يعد هاجس تدمير الخصوم من ضِمن أجندات الجهاد الأطلسي فحسب، بل تفتيت الدولة الوطنية والعبث ببنائها ومكوناتها ومكتسباتها، على اعتبار أن عوائد الإعمار بالنسبة للشياطين الجدد أعلى بكثير من عوائد التشييد والبناء، على الصعيدين: المادي، والمعنوي.
الأمرُ اللافت في سلسلة مراحل الجهاد الأطلسي، والذي يستحق التأمل والتدبر والتحليل، هو أسباب فشله وانكساره وهزيمته وتشظيه على أرض سوريا، رغم تفوقه الكمي والنوعي بأضعاف على سيناريو أفغانستان!!
سيهرب السطحيون وذوو عقلية البُعد الواحد سريعا إلى الإجابة المُعلبة بأنَّ السببَ هو التدخل الروسي ودعمه للنظام في سوريا، بينما الحقيقة أنَّ الدعم والتدخل الروسيين ليسا سوى من جملة أسباب فشل مشروع الجهاد الأطلسي على سوريا؛ فالتدخل الروسي لم يكن سوى في العام 2013م أي بعد عامين تقريبًا من تحمُّل الجيش العربي السوري الباسل لجهد الحرب وثقلها ومفاصلها الحرجة؛ حيث كان يُقاتل على أكثر من 4000 جبهة في اليوم الواحد، وكانت دمشق نفسها مسرحًا لعمليات قتالية ضارية.
هنا.. لابُد أن نُقر ونَعترف بأنَّ عقيدة الجيش العربي السوري البطل القتالية كانت أقوى بكثير من عقيدة جميع مُكوِّنات الجهاد الأطلسي، رغم ضراوة الحرب ومُباغتتها وفصولها الدموية وأساليبها غير المسبوقة عملياتيًّا واستخباراتيًّا. ومن هنا، يُمكننا القول بأنَّ الجيش العربي السوري كان الضد النوعي الأول في عقيدته القتالية لمواجهة المخطط التدميري الشامل للأمة عبر فصائل الجهاد الأطلسي؛ حيث وجد الجيش السوري نفسه والمؤسسات السورية الحرجة معه يقاتلون بالنيابة عن الأمة العربية قاطبة، بعد تدمير وتكبيل وتحييد الأقطار والمؤسسات العربية الفاعلة في العراق وليبيا ومصر والجزائر.
وبعد عام 2013م، وزيادة جرعة الجهاد الأطلسي على الأرض السورية، زادت في المقابل جرعات الضد النوعي المقاوم لها؛ حيث شارك كلٌّ من فيلق القدس بقيادة الجنرال قاسم سليماني، وحزب الله، وانخرطا في تفاصيل الحرب مباشرة؛ فكانت المعجزات.
للرُّوس قراءات أخرى للمشهد السوري، وإن كانت في بعضها عميقة وراسخة كالتحالف الإستراتيجي مع سوريا، وتسويق روسيا البوتينية عبر منبر دمشق لسبب ديني وهو كَوْن سوريا منبعَ وحاضنَ الكنيسة الأرثوذوكسية، وللتطابق الكبير في السياسات السورية الروسية في المنطقة؛ حيث تجلى ذلك في شعار القيادة الروسية لتلخيص هذه العلاقة؛ وهو: "إن مصالح روسيا "مع" سوريا أكبر من مصالح روسيا "في" سوريا"، وهذا الشعار لم يفهمه رُعاة الجهاد الأطلسي، والذين هرولوا إلى موسكو في مراحل عديدة من الأزمة حاملين معهم وعودَ وتطمينات رعاية المصالح الروسية في سوريا، والحفاظ عليها، ومعها صكوك أموال وعقود استثمارات سخية.
كما أنَّ للروس ثأرًا مع الغرب منذ حرب أفغانستان، ولا شك أنهم وجدوا في الأزمة السورية مناخًا مثاليا للثأر ورد الاعتبار وترميم عقيدة الجيش الروسي ونفسيات جنوده التي حطمتها الحرب الأفغانية.
لا شك أنَّ الحرب الأطلسية على سوريا تُمثل حالة استثنائية في الحروب المعاصرة في أدواتها وكمها وكيفها وخططها وغاياتها ونتائجها على الأرض لاحقًا؛ فالجهاد الأطلسي ليس فكرًا سياسيًّا ولا فكرًا دينيًّا ولا مشروعًا، بل أداة حادة بيد العدو، مغموسة في الدين والإجرام والتكفير معًا، بقصد تحقيق نتائج سياسية على الأرض، ولا شك كذلك أنَّ قراءة تحليلية عميقة لفصول الأزمة في سوريا ونتائجها الملموسة على الأرض اليوم، تُبرهن على يقينية جلية لا لبس فيها، وهي: أهمية الضد النوعي في الحروب المعاصرة لحسم الحرب والظفر بالنصر المؤزر وأهمية تفكيك فكر العدو وتحليله بعمق لاختراقه والإجهاز عليه. ومن هنا، كان الدهاء السوري، الذي اكتشف مُبكرًا أن العدو يحمل ثقافة أطلسية صهيونية ضد العروبة، وتكفيرا ضد إيمان، وإسلاما وإجراما ضد عقيدة عسكرية قتالية وأخلاق حرب، وجهلا ضد علم، ودمارا ضد إعمار، وتشظيا وتمزيقا ضد وحدة ووئام وتآخٍ، والأهم من كل ذلك هو إسقاط دمشق كآخر قلعة للعروبة والكرامة العربية والحلم العربي بالدولة الوطنية بمناعتها الطبيعية، وثوابتها وموروثها القيمي، لتمرير كل غيٍّ وصفقة وتطبيع لاحقًا.
وبالشكر تدوم النعم...،
-----------------------
قبل اللقاء: الأزمة السورية وتداعياتها ونتائجها المُبهرة على الأرض شكَّلت مناخًا سويًّا لشيوع وبسط نظرية الضد النوعي في الدول الحيوية لمواجهة حالات الجهاد الأطلسي وأخواتها من نُتوءات الجهل وأدوات الاستعمار الجديد، وحروب الجيليْن الرابع والخامس؛ فرأينا الحشدَ الشعبيَّ ونتائجه في العراق، وأنصار الله في اليمن، وسنرى المزيد من نماذج الضد النوعي مُستقبلًا في أقطار وعلى جغرافيات كثيرة.