السينوغرافيا والإمساك باللحظة الشعريّة.. إضاءة لـ رحيق مسافات خيرة مباركي



كريم عبد الله | شاعر وناقد عراقي

سيبقى الشعر هو اللغة الشاملة والمعبّرة عن الذات الإنسانية وستبقى الكلمة هي الكائن الحيّ الذي من خلاله يستطيع الشاعر أن يرسم الواقع عن طريق خياله الخصب وابتكار العديد من الصور الشعرية الزاهيّة وإجادة تشكيلها وإعادة صياغتها وجعلها ناصعة متوهّجة خالية من الترهّل, وإن طغيان المخيلة الخصبة تمنح الشاعر حرية تحطيم اللغة واستغلال طاقاتها إلى أبعد حدّ ممكن وبثّ الروح والمشاعر الجيّاشة في القصيدة عن طريق تغريب اللغة وانثيالاتها وتحطيم الوحدات المنطقية والعقلية التي تجعل القصيدة مقيّدة وتتحرك في نظام نمطي رتيب وجعل اللغة ساحرة عذبة.
مما لاشكّ فيه بان حالة التوافق الذهني والحركي (حركة الأصابع) عند الشاعر مهمة جدا تتيح له حرية الابتكار والخلق نتيجة لموهبته وحرفيته العالية في صناعة الحدث الدرامي داخل النصّ الشعري, فالشاعر كالموسيقى الحاذق يحتاج إلى أنامل تجيد العزف بحريّة وعذوبة ويرسم بكلماته صوره المدهشة والمستفزّة عند المتلقي.
الشاعر يجب أن يحسب كل شيء داخل عمله الشعري بعناية فائقة, ينظم الأحداث والصور والموسيقى والحوارات والزمان والأمكنة داخل فضاء عمله الشعري يبدأ من المفردة واخيارها الصحيح ومكانها المناسب داخل المقطع الشعري ثم دراسة المقطع الشعري ورسمه بدقّة وتكثيفه إلى أبعد حدّ ممكن وضغطه كي يتناسب مع المقاطع الأخرى.
عليه أن يحسب بدّقة اللقطات المتوهّجة داخل النصّ وكذلك الاصوات وتناغمها مع بعض ويحذف الأصوات النشاز لئلا يرتبك العمل الشعري ويتشتت ويتلاشى. فالسينوغرافيا (سينو = صورة / غرافيا = رسم) تعنى رسم الصورة, الشاعر المبدع يستطيع رسم العديد من الصور الشعرية الغريبة والمحطمة للواقع والعزف بجميع الأدوات المتوفرة (المفردات المختارة بدقّة) وإبهارنا, وأن يجعلنا نتساءل كثيرا ونتأمل ونؤوّل كل حسب ذائقته وخزينه المعرفي كثيرا أيضا ويمتعنا بمتعة أيما متعة, متعة ترافقنا طويلا لا تنتهي بمجرد الانتهاء من قراءة القصيدة.
يبدو أننا أمام خلية نحل (القصيدة/  رحيق المسافات) عاملات كثيرات لاتكلّ ولا تملّ (الرمز/ الاستعارة/ التشبيه/ المجاز/ والكتابة) تعمل بعدة أشكال وتقوم بوظيفتها لا لشيء إلاّ انتاج وجمع الرحيق (إيصال المعنى إلى المتلقي), وخلف هذه العاملات (الرمز / الاستعارة / التشبيه / المجاز / والكتابة) توجد (ملكة/ الشاعرة) تراقب الأحداث بعين ثاقبة تجيد فن الهندسة والبناء وتملأ (المسافات/ الفقرات) بالدهشة وتبعث فيها الإحساس بالجمال واللذة أو الأسى وتبعث الفتنة. عند قراءة هذه القصيدة تهبّ علينا نشوة نتشممها من خلال لغتها المغايرة وكلما نتقدّم في القراءة نراها تتوهّج أكثر تذيب الثلوج وتبدد سحب الرماد من الذاكرة, لغة تستفزّ الخيال توقظ في الروح فتنتة تنتصر على كدر الواقع المعاش وتبدد من حولنا هذا الضجيج وتحلّق عاليا حرّة في سماوات أخرى تنبعث مما وراء الحلم.
رحيق المسافات / هذا العنوان الهادىء والمثير في نفس الوقت حيث يفتح آفاق التأويل والتأمل العميق عمّا أرادت من خلاله الشاعرة أن تقول وهي تستفتح القصيدة بهذه الإطلالة الجميلة . فكما هو معلوم في اللغة بأنّ ( الرحيق سائل مائي سكري تفرزه الغدد الرحيقية التي تتواجد إما على الزهرة أو على الأوراق أو عند التقاء ساق الورقة مع الغصن وهو الغذاء الرئيس للنحل حيث يمتصه من الأزهار ويحمله إلى خلاياه في حويصلة العسل), وإنّ ( المسافة تعنى البُعدْ وأيضا المساحة والمقدار وقد تستخدم للزمان , وقد تعني المسافة التي يتركها النحل بين الأقراص الشمعية وأجزاء الخلية الاخرى وذلك للسماح له بالمرور خلالها و قد تستخدم المسافة ايضا للفراغات ما بين مقاطع القصيدة ). هنا لابدّ من الوقوف على قصدية العنوان لأنه العتبة الاولى والمدخل المهم للقصيدة, فهل أرادت الشاعرة أن تقول:  بأنّ هناك مسافات زمنية أو مكانية ممتلئة بهذا الرحيق..؟!. وهل أرادت أن تثيرنا عن طريق هذه العنوان بأننا أمام خلية نحل صنعت بعناية فائقة وكأن وراءها مهندس محترف (القصيدة) ..؟ . أم أشارت إلينا بعنوانها هذا إلا أنّ كل فقرة من فقرات قصيدتها هذه يتكاثر الرحيق بينها وإنها (الشاعرة) قد كتبتها برحيق الإبداع وجمال اللغة ..؟ . كل الاحتمالات جائزة لأن العنوان يشير إليها جميعا ويلمّح عن بعيد أو قريب إلى ذلك . بالتأكيد أرادت الشاعرة أن تقول لنا بأنّها رسمت هذه القصيدة رسما دقيقا كخلية النحل وبثّت فيها الرحيق فكان العنوان عبارة عن صورة حسيّة/ شمّية/ ظرفية/ ذوقية, من خلاله أصبحنا نشمّ عطرا ونتحسس جمالا ونعيش في زمن معين ومكان أخر ونحن نتذوق هذا الرحيق المتضوع من بين فقرات القصيدة ..

يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
هكذا تبدأ القصيدة / ياااااااااااااااااااا / بأداة النداء للذات الاخرى البعيدة او القريبة / هل هي عملية مناداة ام استغاثة وتعجب / لعيونك حين تتنفسني / صورة مكثّفة مدهشة جدا أنسنت العيون ووهبتها صفة التنفس / وهذا انزياح رائع في اللغة / رحيق مسافات : هنا اعطت لنفسها هذا الرحيق وهذه المسافات التي اشرنا اليها في العنوان .
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
وأنت / أيها الهنااااااااااااااك / بدأت القصيدة تبوح بمكنوناتها وتخاطب / الـ أنت / في لغة مبهرة / تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ .. / ويبدأ العزف وندخل بهدوء الى اجواء القصيدة بهذه الموسيقى العذبة من خلال اشراقة فجر قرمزيّ بديع .
لابدّ من الاشارة هنا بانّ كل مقطع رُسم بعناية فائقة جدا عن طريق لغة مرمّزة رقراقة كالينبوع حُبلى بالكثير من الصور الشعرية الصادمة والمدهشة أن القصيدة تحتضن داخلها الكثير من الألحان والأنغام والأصوات / فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق ../ سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة ../ ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب ..
نجدّ في هذه القصيدة عنصر حيوي ألا وهو الصراح والحوار والحركة لكننا نتلمسه من بعيد حيث تكون الشاعرة تصنعه بحرفية عالية وتجيد تحريكه مستبطنا / فأَبْحَثُ عنّي.. وأتيه في أحْداق النّورِ../ حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة../ وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي.. تُحْيِيهِ.. / هنا نجد حوارا بين شخصيتين عن طريق لغة مبهرة ومن خلال صور شعرية صيغت بعناية فائقة.
مما لاشكّ فيه بأننا أمام تدفق لغوي جميل جدا وتشكيلات صورية رسمت من قبل فنان يجيد الرسم بالكلمات وموسيقى طافحة بالجمال والفرح, كلّ هذا استطاعت الشاعرة أن تظبطه وتحسبه بدّقة ختمته بـ / أغدا ألقااااااااااك.. / يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ.. / الإصرار والتأكيد على الحضور القوي والنتظر.
هذه كانت عبارة عن إضاءة لقصيدة الفنانة التشكيلية والناقدة والشاعرة التونسية/ خيرة مباركي, وهي ليست قراءة نقدية فأنا لست بناقد وإنما سحر القصيدة أقلقني كثيرا واستوقفني طويلا فكان من الواجب أن أقول بحق الجمال والإبداع شيئا فكتبت ما كتبت..

 

القصيدة
رحيق المسافات

يا لعيونك حين تتنّفسُني رحيقَ مسافاتٍ
وأنتَ تُموْسقُني ابتسامَةَ فَجْرٍ قُرْمزِيٍّ ..
فأَبْحَثُ عنّي ..وأتيه في أحْداق النّورِ ،
فرجًا لأسارير طريقِكَ الطويلةِ ..
حين تغْزُوني ابتسامةَ صبحٍ ..أنتصبُ علامةَ استفهامٍ في استخارتي الأخيرة ..
يا أيُّها الإنْسيُّ ، من صبْوَتيْكَ السّادِرتيْن في فجري
تُشْرق فراديسي
وتخطُر في نشوة الضّياء ..
فأعزفُ حنيني ببراعة القحط حين لا تدركني مزنتُك العابرة بعساكر الشوق
ويخضّبُني بمِحْنَة الرُّكُوعِ في
تواضُع الحلم ..
وأنتَ تعْرُج لصَمْتي الأبدي .. تُحْيِيهِ
سيمْفُونيّةً عاصفةً لربيعٍ آيلٍ لسَكْرة
الفُصُولِ فَتَضِجُّ عُطُورُ الشّرْقِ وتغارُ منْ شَذاك
المُتضوّع بأنفاس صباحِكَ
عزْفَ نايٍ بعيدٍ ، يُفيْرُزُنِي
بقداسة المَوانِع ..
أجفانُك المُهلِّلة من بُسْتانك الأخْضرِ
المُخَطّط بانهِمارات الصَّبّ ، تُرْديني طريحَة
الذّكريات المأهولة بسنابلك ..
وحبابُ الهَوَى يُنَرجِسُني سُعْرات وسُعْرات ..
ياااااااا أنتَ .. البعِيد خلْفَ الخرائِط
ارتسمتَ في مرآتي
ملحمةَ شوقٍ عنيدةٍ تنُوخُ في بيادري أشرعةَ هوَى تسيلُ فيه الدُّنَى وتسجُدُ ..
ترتّلني لحْنا كلثوميا بصلاَة غائِب :
"أغدا ألقااااااااااك .."
"يا لشَوْقي واحْتراقِي في انتِظارِ الموْعِدِ "
شعر خيرة مباركي .ديوان " مخاض الأشرعة "

 

تعليق عبر الفيس بوك