لك الله أيها المتيم

يوسف بن يعقوب المعولي

 

موطني موطني ذا الفدا، موطني موطني يا أنا، رغم كيد العدا، رغم كل النقم سوف نسعى إلى أن تعم النعم، سوف نرنو إلى رفع كل الهمم للمسير للعلا ومناجاة القمم...

كلمات كنت أسمعه يصدح بها، حين يخط بأنامله على لوحة المفاتيح ليكتب مقالا صحفيا. لم أكن حينها أجرؤ على مجالسته؛ بحكم أنه كان صحفيًا لامعاً وكنتُ مجرد موظف في جريدة الرؤية التي شهدتُ فيها أبجديات الصحافة.

ذات يوم دفعتني نفسي لسؤاله عن سر هذه الكلمات، وسر ترديده لها: فقال "هو الوطن روحي وملهمي هو الإكسير الذي أرتشفه ليخط قلمي ما تقرأ، وهو الروح التي تنبض فيَّ. فلولاه ما رأيتني هنا، ولولاه ما كنتُ أنا".

كنتُ أعلمُ عِلَم اليقين كم هي المعاناة التي يتجرعها جراء عمله هذا، فمن صحته دفع الكثير، ومن وقته بذل النفيس؛ ولأجل خدمة "المحتاجين" ضحى بأجمل المناسبات، عبر مشروعه الإنساني في الكتابة عن الحالات الإنسانية المؤثرة؛ ولم يندم على ذلك يوماً.

"إنها تعني أن يخلص الإنسان لضميره، فالإنسان لا شيء إن لم يكن يداً تمسح عن البائسين دموعهم"، جوابه ذاك كان رداً على سؤالي له بعد أن قضى ليله كله يكتب عن "الأم" التي تعيش في خرابةٍ مهجورة وقد تخلّى عنها الجميع. كانت تلك المصارحة مع الصحفي أحمد بن سيف الهنائي الشغوف بحب وطنه بطريقته تلك التي لا يجامل فيها ولا يتزلف أحدًا لأجلها.

الإنسانية هي الوطن وهي سر أحمد الهنائي، وهي الشيء الوحيد الذي كان يفخر به، يجول بين أصحاب البيوت المتهدمة والقاطنين في مأوىً غير صالحٍ للسكن، ينتقل من ولايةٍ إلى أخرى، ولا ينتظر مقابلاً على ذلك، كل همه توفير مسكنٍ لتلكم الحالات المتدهورة، وكم هي فرحته عندما تتفاعل وزارة الإسكان ببناء منازل لهم، وفي غضون سنتين تمكن من توفير عشرات المساكن عبر تحقيقاته التي تطفح بالإنسانية الحقة.

لم يعد أحمد الهنائي كعهدي به عند أول لقاء بيننا. كان بستانا يضم بين جنباته شتى فنون الفخر والعزة وقصص المكافحين. تحت ظلال فكره تفيأنا روعة قصص الشباب العماني، ومن نفحات عطره شممنا أجمل ذكريات من شهدوا روعة وعظمة النهضة العمانية ومنجزات قائدها.

لم يكن يخطر ببالي ذات يوم، أن تلك الشعلة وذاك النجم الوضاء بحب الوطن، أن يخفت يومًا إلى أن قرأتُ مقاله الأخير "نعم أنا حزين". لم أكن قبلها لأتصور أن الهنائي بذاته كان قصة من تلك القصص في مشواره وهو يعد العدة للكتابة عن أي حالة إنسانية أرهقتها الحياة بمنغصاتها.

أنأتُ مسكينٍ عبر الهاتف تأتيه، ترجوه أن ينقل تلك الآهات بدمع قلمه، يلبي النداء مسرعًا، يتصل بي لأشهد معه الحالة، وعبر طريق وعرة بسيارة غير مهيأة لمثل تلك الطرق نسلك الدرب، مشاهد تُدمعُ القلبَ وتُدمي العين.

لم أكن لأتخيلَ أن أٌشاهد في ربوع بلادي التي تنعم بالخيرات أن أجد إنسانًا يعاني بمثل ما شاهدت، عشتُ معه أحلك الظروف وأمرها، فمن عسير ماله رأيته يجود ومن قليل ما بيده كان يعطي ليخفف شيئًا من الآلام. وفي المساء لم يكن وضعه بأحسن حال، وهو يعتصر الفكر لينقل ما تعانيه الأسرة أو الحالة الإنسانية.

أخلص للمهنة إخلاصًا قلما تجده، ففي أثناء عملنا في جريدة الرؤية كان يسامر الليل حتى آخره، ويخلو مع الوحدة في تلك القاعة، التي أكرمني الله أن سامرته فيها ذات الليالي.

كان حريصًا كل الحرصِ على سلامة اللغة، ومراعاة أبسط قواعد الإملاء ومصداقية نقل الصورة، ومشاعر الحالة، حتى أنه أحيانًا يتصل عدة مرات ليستأذن من صاحب القصة فيما يكتب.

الهنائي أيقونة للتميز ومشروع كاتب لم يجد من يتبناه أو يرعاه، وواقع مع الأسف يعكس كم هي المواهب المهدورة في هذا الوطن العزيز، الذي ما فتئَ قائد نهضته يدعو لدعم الشباب والنهوض به، فهو عماده وأساس قوته.

خرجتُ من عالم الصحافة التي لم تعد تجذبُ إليها أحدًا الآن؛ لتعدد الوسائط التي أصبحت المعلومة معها ميسرة وسهلة، إلا أنني قيدتُ بها وأصبحتُ أسيرَ بريقها بعد أن أدمنتُ قراءة ما يسطره أحمد الهنائي الذي حين أقرأ ما يكتبُ أتذكر أجمل سنْي عمري.

لست أنت الحزين يا صديقي، بل نحن المحزونون على هامة من هامات الوطن آذتها المنغصات وركنها المجحفون.

ستبقى نجمًا عاليًا وجبلا شاهقًا وشمعة تحترق لأجل غيرها. لا تحزن فما صنعت لن يضيع وما غرست لن يندثر..

شكرًا من القلب بعدد قطرات المداد التي ذرفها قلمك وشكرًا ألف شكر على ما جادت به يمناك.

تعليق عبر الفيس بوك