آن الأوان لنغير مفاهيمنا نحو التعليم

 

د. صالح الفهدي

 

كثافة المواد الدراسية والواقع

ملامسة التعليم لقضايا الحياة تتطلب أن يكون على تماس مع الواقع؛ وذلك يقتضي تغيير منهجية التعليم السائدة مثلما فعلت فنلندا في إلغاء المواد واستبدالها بالقضايا الواقعية التي تناقش من زوايا مختلفة؛ مما يحقق عدة أهداف؛ على رأسها: واقعية الطرح، وواقعية الحلول، ومناقشة التأثيرات المختلفة التي تثيرها تلك القضايا.

لقد اختصرت سنغافورة مناهجها التعليمية بنسبة تتراوح بين 10 إلى 30 بالمائة من أجل السماح بإدخال قدر معين من المهارات العقلية والروح الابتكارية والإبداعية في المناهج التي من شأنها ملامسة التعليم للقضايا الواقعية، وإنتاج حلول لها أثر واقعي في حياة المجتمعات.

وإذا كانت الأفكار ليست بذات جدوى إنْ لم تثبت فاعليتها على الأرض -كما يرى مالك بن نبي- فإن تطبيق الأفكار على قضايا معاصرة في مجالات الحياة هو أمرٌ لا غنى عنه، لإثراء الإدراك الإنساني، وصقل القدرات التي يتمتع بها المتعلم، للإستفادة منها.

هذا الترابط الواقعي الذي أقصده هو الذي عناه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران مؤلف كتاب "سبعة دروس مركبة في التعليم من أجل المستقبل"، حين قال: "إن المدارس لا تدرس المناهج الشاملة التي يمكن أن تساعد الطلاب على تطوير رؤى شخصية متعاطفة وأكثر ثراء"، مشدداً على أننا "بحاجة إلى تعليم يمدن التعليم وتعليم عن الحضارة"، مضيفاً بأن "جزءاً من المشكلة هو أن المدارس لا تزال تدرس المواد بشكل "تراكمي" عوضاً من أن تكون مترابطة".

لقد كان لنا جلسة في مجلس القيم -الذي عقده مركز قيم- حول أهمية ملامسة التعليم للواقع، وتفاعل الحضور مع أهمية واقعية التعليم، إذا قالت الفاضلة نادية المكتومية وهي مدربة في المركز التخصصي التابع لوزارة التربية والتعليم: "علينا أن نعلم الابن التعامل مع العالم بأسره وليس من حوله فقط. لذلك يجب أن يزود بالمهارات والمعارف التي تجعله فعلاً إنساناً قادراً على التعاطي مع معطيات الحياة. مشيرة إلى أن الطفل اليوم أصبح بإمكانه التعامل مع مختلف أطياف العالم بكبسة زر من غرفته"، وعقَّبت على قولها السيدة تماضر آل سعيد بالقول: "إن الطالب اليوم في المدرسة يعتقد أنه إذا حصل على علامات جيدة، فهذا يعني أنه جيد في المدرسة ولكن الواقع غير ذلك، فمن خلال خبرتي في الجامعة هناك الكثير من الطلاب الخريجين كانت درجاتهم عالية جدا، ولكن تكيفهم مع الواقع غير جيد".

وإذا كان هدف التعليم هو بناء شخصية متعلمة قادرة على التعاطي مع الواقع بمسؤولية وإدراك وبصيرة، فإن ربط التعليم لابد أن يتم بالواقع المعاش، وإحالته إلى القضايا التي يسهم البحث والاستقصاء فيها تأسيساً جدياً للذهنية الواقعية، التي تجابه الواقع بتحدياته، وصعوباته، يقول الكاتب محمد رفيق العياصرة: "إن إحدى مشكلات التعليم هي غياب الوسائل التعليمية والتطبيقية عن المنهاج المدرسي، فغدت المناهج المدرسية المرجع الأول والأخير للطالب، فهي تأتيه بالمعلومة جاهزة، فحرمت الطالب من متعة البحث والاستكشاف والاستنباط والتحري عن المعلومة، وانحصرت مهمة الطالب في قراءة المنهاج وحفظ المعلومات عن ظهر قلب ليكتبها في ورقة الامتحان وينجح بتفوق دون معرفة المعنى الحقيقي للتفوق، بيد أن البنية العامة للمناهج المدرسية المواكبة لا تقيد الطالب والمعلم بسلاسل المنهاج المدرسي بل تحثه على البحث والاستقصاء وبذل الوسع في الحصول على المعلومة، مما يؤدي بالنتيجة إلى فهم أعمق للدرس الصفي، بل وتحصن الطالب بالعلم والمعرفة والثقافة الضرورية ليصبح الطالب لاعبا فاعلا في نهضة الأمة لتلحق بركب الأمم المتقدمة".

وإذا كان هدف التعليم الأسمى تعليم الإنسان كيف يفكر، فذلك لا يكون إلا بربطه بواقعه من خلال ما يعتري الحياة من تحديات ومعضلاته، كي تتحرك خلايا التفكير الدماغية، وتنشط في سبيل إيجاد حلول واقعية.

يدفعنا هذا الأمر -لا شك- إلى تغيير مفهوم اعتبار الكتاب هو المصدر الوحيد للمعلومة، واعتباره بدلاً من ذلك أحد مصادرها، بينما ترتبط المصادر الأخرى بالتوجه نحو الوسائل الأخرى تفكيراً، وبحثاً واستقصاء وتحليلاً.

كما أن ذلك يدفعنا للبُعد عن المواد المكثفة التي لا تفيد المتعلم في شيء عدا تعقيده، وتلك هي التي وصفها الأب الروحي للتعليم الفنلندي سالبرج بـ"المعرفة المعزولة"، محذراً من إلزام الطالب بمعلومات تفصيلية لا يتداولها إلا أهل التخصص الدقيق، ومشدداً على أن "إلزام النشء بهذه المعارف المعزولة سبب كاف لنفورهم من التخصص بها مستقبلاً".

أخيراً أقول إنَّه لا يُمكننا أن نسلم بأن للتغيير قيودًا تمنعنا منه فـ"ليس هناك أية قيود على عقولنا إلا تلك التي نعترف بوجودها" كما يقول نابليون هيل، فإن واجهناها بمسؤولية وموضوعية استطعنا أن نغيرها، وإلا تشبثنا بأساليبنا التقليدية، بينما ينتج تعليمنا من يحرزون الدرجات العليا في الاختبارات النظرية، في حين أنهم لا يستطيعون مواجهة الواقع بتعقيداته وإشكالاته.