"يوميّات سراب عفّان" لجبرا إبراهيم جبرا (3 -4)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

العشق الذي يمتدّ نحو الوطن
ب ـ سراب (أ):
أما الظلّ الثاني لشخصية سراب فهو سراب اليوميات، أو سراب (أ) كما رسمتها سراب (ب) الواقعية التي حاولت أن تجعل خيالها مسرحاً للقاءات تجمع بينها وبين نائل عمران قبل أن تلتقيه حقيقة. إنها سراب العاشقة التي تقول في يومياتها "كل يوم أفكّر فيك. كل ليلة أفكّر فيك. وأقلق عليك. وأكاد أحياناً أبكي، بدمع وبغير دمع لأنني أجهل مصيرك"، ص37، وتبتدع اتصالات هاتفية بنائل، منها الاتصال الذي عقِبَ شراءها روايته (الدخول في المريا)، وقراءتها جزءاً منها:
"ـ أتعرف أنني دخلت المرايا؟
ـ كان الله في عونك!
ـ دخلتها معك.
ـ ما أسعدني"، ص22.
غير أن سراب الواقعية تصحو، وتتدخل، وتزيد لذة الوهم في تداخل السرد؛ إذ تتوقف عن الكتابة وتعود إلى واقعها متسائلة: "ترى لو أنني اتصلت فعلا بهذا المؤلف تلفونياً، هل كان يجري بيننا حوار كهذا؟"، ص25.
وبعد اللقاء الحميم والقبلة الطويلة التي تحدّثت عنها سراب في يومياتها، وابتدعتها كأشهى ما يتمنى خيالها، ألقت بالأوراق التي كتبتها؛ لتعود إلى واقعها، وقد تسرّب إليه الخيال اللذيذ: "ألقيتُ بأوراقي عني إلى الأرض، وقد انتابني إعياء شديد. عدّلت من وضع وسادتي، وارتميت على الفراش كالقتيلة، منبطحة على وجهي، كأنني سقطت من سطح عمارة بأربعين طابقاً"، ص70.
ومن الطبيعي أن ينتقل لقاء سراب الافتراضي إلى حسّها الواقعي؛ لأنها تدخل مرة بعد أخرى إلى وسط يومياتها، وتعبّر عن العلاقة بين ما تكتب وما تتمنى، فتقول: "أفتح قوساً هنا لأعترف: يخطر لي أن ما كتبته أمس واليوم ما هو إلا سيناريو لعلاقة أتمنى لو تتحقق"، ص32.
ج ـ سراب (ب):
أمّا الوجه الثالث لسراب فهو ليس ظلاً، إنه وجه سراب الحقيقي، سراب التي تعيش في واقع الرواية، وتلتقي شخصياتها، سراب الموظفة في مكتب الأستاذ شريف؛ حيث تستتقبل الزبائن، وترد على الهواتف وتستقبل تالة (زوجة شريف وعاشقة نائل)، وتجعل مكتبها إطاراً للقاء افتراضي بين نائل وسراب التي زعمت أنها رندة في يومياتها. وقد أفاد جبرا من المكتب في خلق فضاء تأطيري لسراب الموظفة، وكان يذكرنا ـ على تباعد ـ بهذا الجانب في شخصيتها، قبل أن تصطدم بغيرة تالة وجنونها، وتترك العمل. ويمكن لإضاءة هذا الملمح الاستشهاد بالسياقات السردية التالية:
•    "دق جرس التلفون في تلك اللحظة، وكان عليّ أن أجيب. ودخل عليّ مراجعان، واستقبلتهما بالواجب المطلوب، ودخلت على على المدير الذي كان في عجلة من أمره مع أحد شركائه، وسلمته إضبارة الكتب الواردة"، ص16.
•    "تناولت إضبارة رسائل العمل التي كانت قد عادت إليّ من مكتب المدير، وقد أشّر بعض أسطرها، وعلّق على هوامشها..."، ص34.
•    "في مكتبي غداة اليوم التالي، شغلتني الرسائل والمراجعات والتلفونات حتى الظهيرة"، ص40.
وقد شكّل المكتب حيّزاً جغرافياً، يضاف إلى بيت سراب، في كتابة يومياتها؛ فكانت تطبع تلك اليوميات، وتقرؤها، وتهيّئ لنفسها فنجان القهوة المعهود، لتجلس إلى الآلة الكاتبة، وإن كانت تحسّ أن نبض قلبها وضجيج رأسها أكبر من أن تحتويه كتابتها: "أحسست بأن ما أطبعه على الورقة لا يلاحق بالضبط كل ما يصطخب في رأسي، وفي صدري"، ص14.
تبدو سراب، بخلاف ظلّيها، ذات أوصاف جسدية جاذبة، وبشكل خاص في سرد نائل نفسه، ويلاحظ القارئ في هذا الوصف الجسدي أن السّرد لا يتوقف، ولا يتفرّغ المؤلف ليصف الشخصية على حساب توقف الحكاية، بل يقددّم الحكاية ووصف الشخصية في آن معاً، وهذا جزء من نسق سردي لنائل عمران، يصف لنا جمال سراب من خلال موقف حكائي:
"أجبت مازحاً: تمنيت لو أن لديك كلمة أكثر... دفئاً من مجرد تعارف.
وخيّل إليّ لحظتئذ أن حمرة شاعت في خدّيها الشفافين، وانفرجت شفتاها العريضتان كأنّ نفسها انقطع من صدرها. وانتبهت إلى عينيها الواسعتين وأهدابها الطويلة. كان وجهها بيضاوياً، ترتفع فيه عظمتا الخدين بشكل واضح، فتؤكدان سعة العينين، وعمقهما، كما تؤكدان فمها الممتلئ. وكان شعرها مسحوباً إلى الواراء يكشف عن أذنيها، وكلتاهما محلاة بقرط ذهبي بسيط، كما يكشف عن عنق طويل"، ص101.
وتؤسس سراب صورة نموذجية لجمالها الآسر في خيال نائل، فيرفض الصورة التي تكون فيها سراب عاقلة (حين تعقل شعرها/ تربطه)؛ لذلك يتمسك بجنونها من خلال رفض هذا العقل، فلا يقبل الاستماع لقصيدتها إلا بعد أن ترفع شعرها، ويطلب إليها أن تعود إلى الصورة الماثلة في خياله:
"ذهبتُ إلى الحمام، وحللتُ شعري المشدود، وأرخيته كما يحب نائل، ومشطته، وعدت بعد دقائق؛ لأجد نائل يحدق بي وانا أقترب، وكأنه يريد أن يلتهمني بعينيه (...)
ـ ماذا، لم ترني من قبل؟
قال ببطء، وهو ينفث دخان سيكارته: أبداً. كل مرة أراك فيها، هي المرة الأولى"، ص181.
إلى هذا الشكل الجسدي المؤهّل لجنون العشق تنضاف صفات نفسية لسراب يمكن أن يلمسها المرء من خلال أفعال الشخصية وتصريحاتها وتعليقات الناس عليها، فهي عاشقة تؤمن أن خلاصها في حبّها، مصرّحة، حتى من خلال ظلالها، أنها تريد ذلك الخلاص: "سأقول إني عاشقة! ولئن كنتُ أريد الخلاص أو الهرب أو المجابهة، فلسوف يشحذ هذا الحب من عزمي، كأنني أهرب ممن أعشق، لكي أبلغ من أعشق"، ص13. وهي تؤكّد أنها تبحث عن انعتاقها، مستندة إلى إيمانها بقلبها الذي يمكن أن يشعل قلب نائل، مهددة بنار العشق التي تحرق كلّ ما حولها: "فأنا ما زلت أنا المطالبة بالحرية، الباحثة عن الانعتاق والخلاص على طريقتي، على طريقتك، وأرفض أن أظلّ فأرة أخرى بين فئران الزقاق الأبدي نفسه، المتخم بقمامة الدهور.... نائل، اليوم الكلمة، وغداً النار"، ص74.
وتمهّد سراب العاشقة لتطوّر الحكاية بإرهاصات عشقها منذ البداية، فهي تشتري رواية "الدخول في المرايا" لا لتعرف نائل عمران، بل لتتابع كشف أعماقه؛ إذ قرأت رواياته السابقة جميعاً، ويبدو أنها عشقته من قبل، غير أنها حين صادفت الرواية الجديدة، أرادت نقل التجربة من السرّ إلى العلن، ومن الكلمة إلى النار، فأسرعت إلى البيت كي تلتهم الرواية التي بدأت بها، وهي تلتهم طعام الغداء على سريرها. وحين تنتهي من  قراءتها تكتشف أن صوت نائل عمران وكلماته دخلا إلى أعماقها، فانتقل إلى حيّز الحضور: "شيء واحد كان يتكرر، ويكاد يظهر، ويؤكد حضوره، ولكنه ينجرف مع الزوبعة والعجيج: وجه نائل عمران، أو يداه، أو لعلّه صوته، كلماته المتساقطة دون خطة أو نسق"، ص35.
لذلك أعلنت سراب الحب على نائل، ورسمت في يومياتها سيناريو افتراضياً، وراحت تربطه بحياته الواقعية، وتحاول تأسيسها بناء عليه، فتقول مثلاً: "بعد أسبوع عدت إلى أوراقي، وقرأت اليوميات، أو السيناريو المزعوم: كل شيء ممكن، كل شيء وارد. هكذا قلت"، ص35، وتنتبه إلى أنّها تشبه خيالها: "فجأة قلت لنفسي: غريب! أليست هذه الباء الحقيقية تشبه كثيراً الألف الخيالية"، ص39. كما أنّها تنقل ذاتها الحقيقية إلى ذاتها الخيالية في لقطة طريفة حين تنتظر نائل، بعد أن واعدته في يومياتها المتخيلة أن تلتقيه في مكتبها:
"وجدتني في صباح اليوم التالي في المكتب أتوقع أمراً لا أستطيع تبيّنه، ثم تبيّنت في الثانية عشرة أنني في الواقع صدّقت أكذوبتي، لأنني رحت فعلاً، وقلبي يشتد خفقانه، أنتظر مجيء نائل عمران"، ص44.
لذلك تعيش هذه الشخصية تلقائيتها، وتعبر عن مشاعرها، وأحياناً عن تهوّرها، بحرية ودون تحفظ؛ فعندما أعطت سرابٌ نائل روايتَه؛ ليكتب لها إهداء كتبَ: "إلى سراب أشد بريقاً من المرايا"، ص115. فـ "تسلمتْ الكتابَ مني بلهفة، وقرأتْ ما كتبتُ. الله، هتفتْ... ثم قرّبتْ الكتاب من شفتيها، وأغمضت عينيها، وقبّلتْ توقيعي"، ص115. وعندما قبّلها في السيارة قبلة سريعة تناسبُ المكانَ العام، كان لشفتيها رأي آخر: "وقبّلت فمها، ولم أُطل القبلة الشهية تحسباً للمكان العام، ولكنني رأيت في عينيها وشفتيها، رغم قلة النور، يأساً وألماً مريعين، وقدّمت لي شفتيها بضراعة هائلة مرة أخرى"، ص125.
وعلى الرغم من التعلّق الشّديد الذي تبديه سراب تجاه نائل، فإن عشقها وجنونها لا يؤديان إلى ذوبان شخصيتها في شخصيته، وربما كان العكس صحيحاً إلى حد ما؛ إذ ضبطت سرابٌ إيقاعَ شخصية عمران نسبياً، على الرغم من أنه كان قادراً على النهوض بعد التعثّر. لقد عبّرت سراب عن استقلالها حين اتخذت قرارها بالرحيل، تجاه خيارها الوطني، وحين خالفت نائل عمران، مرات متعددة، في خلال نقاشاتهما، حول أهمية الحب، وحول علاقة الروح بالجسد، ويمكن هنا أن نشير إلى السياقين التاليين:
•    "ـ هل الظلام جسد يتهشّم؟
ـ بل روح، والنور هو الجسد.
ـ لا أدري إن كنت أتفق معكَ. أتصوّر أن الظلام هو الجسد، والروح إن وجدت، هي النور الذي يهشمه، أو، على الأقل، يعيد تركيبه، ويوهجه"، ص118.
•    "دعني أسألكَ: لوخُيّرتَ بين الخبز والحب، أيّهما تختار.
ـ أنا يا سيدتي رجل عملي: أختار الخبز.
ـ يا خيبتي! أما أنا فأقول: أعطني حبّاً. وعيّشني في الماء"، ص124.
مثل هذه الشخصية قادرة أبداً أن تفاجئ نائل عمران بتصرفاتها، من خلال ظلالها كافة؛ فسراب (أ) تواجهه بأنّها ليست رندة الجوزي، وسراب (ب) تفاجئه باللقاء في المصعد، وتفاجئه بأنها تعرف رقم هاتفه، وتفاجئه أخيراً بأنها تسافر إلى جهة مجهولة، أي أنها كانت تمسك خيط قدره، وتجعل منه عصفوراً يدخل إلى قفصها بملء إرادته.
وإذا امتلكت سراب الجراءة؛ لكي ترتكب خطايا العشق الجميلة المراوغة، عبر اختراعها حكايات وهمية، فإنها امتلكت شجاعة الاعتراف في ملكوت عاشقها، سواء أكانت سراب (أ) التي اعترفت له في البيت أنها ليست رندة الجوزي، أو سراب (ب) التي اعترفت له أنها ليست صحفية، وكانت مثل هذه الاعترافات تسعد نائل الذي يكتشف، بسعادةِ العاشقِ الغرّ، أن هذه المخلوقة الجميلة المراوغة التي لا تعمل في الصحافة، تقصده لذاته:
"ـ أنا لستُ صحفية.
ـ ولا تكتبين لمجلة الأسبوع؟
ـ ولا أجري حوارات مع الأدباء.
ـ ولا الفنانين ولا الممثلين ومن لفّ لفّهم؟
ـ والمسجل الذي أملكه في البيت من النوع الكبير، ولا أستعمله لا لعزف الأشرطة الموسيقية.
ـ إذن، سراب، فرّحتِني"، ص116.
(يتبع) ...

 

تعليق عبر الفيس بوك