د. صالح الفهدي
نسير في طريق لا نُجرأ أن نتوقّف فيه لحظة لتقييم نتيجة سيرنا، وحصاد أعمالنا فيه..! أمم توقّفت لتقيّم مسيرتها التعليمية تقييما موضوعيا، منطقيا، ناقدا، استطاعت أن تقوّم المفاهيم المعوجّة لفكرة التعليم، وتتخلّص من بلادة الأفكار، وجمود القوالب التي ترسّبت في منهجية التعليم، ولقد جنت حصاد التغيير في مفاهيمها تجاه التعليم.
من المؤسف أنّ مفاهيمنا نحو التعليم لم تتغيّر فنحنُ متشبّثون بالمفاهيم التقليدية التي لم تعد ذات جدوى في إحداث التغيير القائم على الإبداع والابتكار في حين أنّ الحياة تتغيّرُ بصورة مطّردة، مما يستلزمُ مواكبة التعليم لهذا التغيير وإلاّ فإنّ الفجوة بين ما تتضمنه بطون الكتب المدرسية وما تحتويه واقعية الحياة تزداد سعة وعمقا بصورة حثيثة...!
لقد أوضح (جون ديوي) هذه الحقيقة في محاضرة له عام 1899 في قوله: "أنّ حياتنا الاجتماعية مرّت بتغيير شامل وجذري، فإذا كان لتعليمنا معنى في الحياة، فيجب أن يمرّ من خلال تحوُّل كامل وعلى قدم المساواة"، وإذا كان قد الفيلسوف ديوي قد لاحظ هذه الحقيقة في أواخر القرن التاسع عشر، فكيف هو الوضع في القرن الواحد والعشرين الذي يشهد متغيّرات متسارعة ليس على النطاق الاجتماعي فحسب، وإنّما على نطاقات أُخرى؛ اقتصادية وسياسية وفكرية ونفسية.
وإذا كان لنا أن نستعرض بعضًا من نمطيّة مفاهيمنا التي ظلّت جامدة في شكلها وأدواتها فإنّنا قد نضربُ أمثلة محدّدة للتدليل لا الحصر في ذلك منها موجز وآخر متضمّنا بعضا من التفاصيل.
إنّ مفاهيمنا في التعليم لا زالت قائمة على تقدير المتعلم وفقا للشهادة التي ينالها لا المهارات والقدرات التي يمتلكها، فماذا تنفعُ الشهادات إن افتقد المتعلّمون إلى مهارات خاصّة، وكفاءات محدّدة، وقدرات مركّزة، وخبرات مكثّفة تؤهلهم إلى التعامل مع الواقع المعاصر بإشكالياته وتعقيداته؟!
مفاهيمنا في التعليم لا زالت قائمة على "الحفظ عن ظهر قلب" حيثُ يشربُ المتعلمون بالتحفيظ والحشو ما لا يطيقون من المعلومات، وما لا يستفيدون من المحفوظات، وذلك على حساب قدراتهم الإبداعية في الفهم والتعليل، وطاقاتهم الفكرية في النقد والتحليل، بينما الأصح أن يتغيّر المفهوم من "التعليم" بمعنى التشريب، إلى "التّعلُم" بمعنى التوجُّه الذاتي المصاحب بالإشراف والإرشاد.
لا زلنا عند فكرة "محو الأميّة بالتعليم" بينما تغيّرت مفاهيم الأميّة نفسها، لتصبح مقرونة بمدى القدرة على جمع المعلومات وإنتاج المعرفة من خلالها، توظيفًا للتقنيات الحديثة التي لم يعد استخدامها إلاّ كوسيلة لإنتاج المعرفة.
لا زالت مفاهيمنا قائمة على كمية عدد خريجي المدارس، لا على ما يمتلكونه من مهارات التعامل مع مقتضيات المعيشة الواقعية وها هي أعدادهم تتراكم سنويا دون أن يستحدث التعليم القدرات والمهارات التي تتعدد وفقا للميولات والاتجاهات.
لا زالت مفاهيمنا عن التعليم متوقفة عند حدود الكتاب وما استقرّ في بطنه من سطور، وكأنّما الكتابُ هو المصدرُ الوحيد للمعلومة، أو الرّافد الأوحد للتعلم، في حين أنّ الكتاب أحد مصادر التعلم، بينما يحفل الواقع بالكثير من مصادر التعلم التي تجعل المتعلم على تماس متفاعل مع قضايا حيوية. في بعض الدول الغربية وزّعت الدرجات بين 30-40 للمناهج، بينما منح إبداع المتعلم الدرجات الأعلى لإتاحة الفرصة أمام المتعلم لكي يوقظ قواه، ويستثمر طاقاته الخلاّقة.
لا زالت مفاهيمنا عن التعليم متشبّثة بالمواد الدراسية المعقّدة التي أضاعت أعمار الكثيرين من المتعلمين الذين لهم ميولهم المختلفة، واتجاهاتهم المتناقضة..! في حين ألغت بعض الدول مثل فنلندا فكرة المواد الدراسية لتستبدلها بدراسة الحالات "study cases" وهي الأصح من وجهة نظري، لأنّ عرض إشكالية معيّنة، واقعية الحدث من زوايا مختلفة يُثري عقلية المتعلّم، ويعرّضه لتجربة حيّة ترسخُ في ذاكرته، أكثر من رسوخ نظريات مجرّدة، ومعادلات معقّدة.
لقد نتج عن عدم تغيّر نمطية التعليم إشكاليات كبيرة منها تراكم أعداد الباحثين عن العمل، التي يراها البعض مشكلة اقتصاديّة بحتة، وأراها من زاوية معيّنة مشكلة تتعلّقُ بطرق التعليم الذي يجبُ أن يواكب متطلبات الحياة، فالوظائف تتغيّر في طبائعها، وتختفي أُخرى بصورة دراماتيكية، خاصّة مع تسارع مبتكرات الذكاء الاصطناعي وقضائه على كثير من الوظائف، الأمر الذي يوجبُ أن يتخذ التعليم طرقا فاعلة تتضمن القدرات المختلفة التي تتسم بالمرونة للتعامل مع طبيعة الوظائف المستقبلية.
تعليمنا اليوم بحاجة إلى قرارات شجاعة، تمتلكُ الرغبة والإرادة والرؤية الواضحة، لنسف المفاهيم البالية، والأُسس الجامدة للتعليم، وتحرير التعليم من جمودية أشكاله، ونمطية وسائله، حتى يمكن أن نحرز نتائج ذات فاعلية في حياة الأفراد والمجتمع.