الحنفية الإلكترونية بدلا من طاسة الماء

عبيدلي العبيدلي

 تنقل جميع المصادر التي تُؤرِّخ لاستخدام صنابير (حنفيات) المياه في مصر، ما نشرته صحيفة الأهرام المصرية في عددها الصادر يوم 22 مارس 2014، في مقال يُرجِع أصل كلمة "حنفية" إلى أنها "تعود إلى سنة 1884 حين عَمَمَّت سلطات الاحتلال الإنجليزي المنشور (رقم 68 لسنة 1884) باستبدال أماكن الوضوء في المساجد بصنابير متصلة بشبكة مياه الشرب النقية التي أقامتها. بناء على (ما تقرر فى مجلس النظار عن مسألة المراحيض النقالى المقتضى إحداثها، وميض الجوامع اللازم استبدالها بحنفيات)، لاستخدام المياه النقية فى المساجد للوضوء بدلا من (الطاسة) تسهيلا على المصلين، ضمن شبكات عمومية لمياه الشرب والصرف الصحي بدأت الحكومة في تركيبها في المدن". وكما تنقل الأهرام: "لقي هذا التغيير في البداية معارضة مشايخ مذاهب الشافعية والمالكية والحنبلية "لاستبدال الميض التي ينال المتوضئون فيها بركة الشيخ الذي يفتتح الوضوء من مائها، واعتبروا التغيير (بدعة)، وأيضا، وحسب ما نقلت الأهرام "لأن انتشارها في الشوارع أدى لوجود بِرَك ماء عندما تمر فيها العربات التي تجرها الخيول (تُطرطِش الطين). وحدهم فقهاء المذهب الحنفي "فضَّلوا الوضوء من الماء الجاري، لذا أطلق العامة اسم (الحنفية) على الصنبور"، نسبة إلى فتوى أصدرها أئمة المذهب الحنفي في مصر.

حقيقة أمر مواجهة استخدام الحنفية، من زاوية اقتصادية، هي أنها، كما تقول بعض المصادر، ألحقت ضررا كبيرا بمداخيل "طائفة السقائين ممن كانوا يحملون القرب (جمع قربة) على ظهورهم لسقاية الناس في بيوتهم وكانوا يتقاضون عن ذلك أجرا يؤمن لهم عيشهم"؛ لذلك تفتقت عبقرية تلك الطائفة وجشعها باللجوء إلى الدين لمواجهة احتمال انتشار الحنفية، ونجحت مساعيهم "واستصدروا منهم الفتوى المرجوة. وأقر المالكيون والحنابلة وكذلك الشوافع، بأن الوضوء من الصنبور غير محبب في الصلاة. أما أئمة الحنفية الذين لم يكونوا بحاجة لما يدفعه (لوبي) السقائين للمذاهب الأخرى، فقد أفتوا بأن الوضوء من ماء الصنبور مقبول بل ومستحب".

نُورِد هذه الحكاية دون انحياز لمذهب إسلامي دون آخر؛ فذلك ما ترويه كتب تاريخ استخدام الحنفيات في مصر، ومن ثم انتشارها في البلدن العربية.

ليست مواجهة استخدام الحنفية وتحريمها حالة استثنائية في تاريخنا العربي الحديث، فليست بعيدة عنا مواجهات استخدام "الدش"، او "الساتلايت"؛ حيث كان يعتبر من يدخل "الدش إلى بيته من الفتن التي ظهرت في العصر الحالي، وقد يكون مفسدة عظيمة على البيت الذي يكون فيه، ويدخل الشيطان من جانب الاستخدام الإيجابي، ثم يدخل فيما بعد من باب الفضول والاستطلاع، ثم لا بمكن التخلص منه وقد اعتادت عليه النفس. واعتبر بعض الوعاظ "أن من يجلب الدش إلى بيته لا يملك أي معنى للكرامة والشرف".

وذهبت بعض الفتاوى إلى أبعد من ذلك، فقالت عن دخول التلفاز المنزل: "وبانتشار فظيع في كل بيت، وفي كل مكان ينظر إليه البطالون، فيفسد أخلاقهم، ويقتل غيرتهم الدينية، ومرؤتهم العربية. أين هذا من اللهو الباطل المقصور على صاحبه، ولم يكن بهذا الشكل، ولا بهه الكيفية، فالله المستعان".

تكرَّر الأمر عندما جلبت الإنترنت معها الهواتف الجوالة، ومعها آلات التصوير المصاحبة لها. فقد قامت الدنيا ولم تقعد، وعرفنا مئات الفتاوى التي حرمت استخدام الهاتف الجوال. وصنفت من يستخدمه في خانة "الفاسقين، والزنادقة".

الأمر ذاته يبرز على السطح عند الحديث عن الطائرات المسيرة، والمقصود بها الصنف التجاري منها، فهي لا تزال غير مسموح بدخولها إلى الكثير من الأسواق العربية. لكنها، تماما كما جرى للحنفية، ومن بعدها "الدش، وتلاهما الهاتف الجوال، ستفرض نفسها، وستجد طريقها إلى الأسواق العربية، ومن ثم إلى يد المواطن العربي.

لنتصوَّر حالنا لو أننا رضخنا لمواجهات كل ما هو جديد في عالم التقنية؛ فعلينا أن نرسم معالم المجتمعات العربية اليوم، دون حنفيات تنقل المياه، ودون القدرة على اقتناء جها تلفاز، ومجردين من حق استخدام الهاتف الجوال في العلن. لا شك أن تلك الصورة لن تكون مشينة فحسب، لككنها ستكون أيضا ساخرة.

لا أقول ذلك دعوة لتحويل ذهنية المواطن العربي إلى "رقيق" يقدس التقنية، ويكون عبدا لها، فليس هناك من ينكر ان التقنية تجلب معها أيضا مساوئها، لكن مواجهة تلك المساوئ، ومحاربتها واستئصالها، لا يتحقق من خلال التحريم، ولا عن طريق المنع المطلق، وإنما من خلال التوعية المستمرة، والترويج للاستخدام النافع، والترغيب الإيجابي المتواصل. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال الخطوات التالية:

- معالجة المسألة من زاوية إيجابية دينامية متحركة، وليست سلبية جامدة صماء. بمعنى النظر إلى أي تقدم تقني من مدخل إيجابي، لا يتعامى عن السلبيات، لكنه يدرك أيضا الإيجابيات التي تحملها معها تلك التقنيات. حينها بوسع من يقتني تلك التقنية، أن يتعامل معها، ومن زاوية منفرجة، تساعده على تقليص سلبيات الأولى، وزيادة إيجابيات الثانية. مع التأكيد هنا على أنه ليس هناك مما صنعه الإنسان ما يملك الفائدة القصوى المثلى التي ربما يدعو البعض لها.

- التشبُّع بذهنية القبول بالآخر، ونبذ السلوك الإقصائي الرافض لكل ما يأتي من الغير، او يستحدثه الآخرون، تحت مسميات مختلفة، ودعاوى متباينة. فالقبول بالآخر لا ينحصر، كما يتوهم البعض، في الجوانب السياسية، أو الإيدلوجية فحسب، بل يتسع نطاقه كي يشمل القضايا التقنية أيضا.

- الانطلاق من المراحل العمرية المبكرة، لضمان يناء مواطن يمتلك الذهنية الجدلية التي تؤهله للحكم الصحيح على أية موجة تقنية يصادفها، فيحرص على الاستخدام الأفضل لها، وجني الفائدة القصوى من وراء الاستفادة منها.

- التحوُّل من خانة المستهلكين المحضة، إلى مربع المنتج – المستهلك. فهذه الازدواجية: الإنتاج/الاستهلاك، لا تقلص سلبيات سلوك الاستهلاك فحسب، لكنها تمدنا بالقدرة على تلمس الإيجابيات التي تحتضنها التقنية التي نعمل على صناعتها، قبل استخدامها.

ختاما.. لم يكن اختيار العنوان بعيدا عن حلم المقال باستخدام "حنفية إلكترونية" تغزو بيوتنا، تعمل عن طريق تقنية "إنترنت الأشياء" (IoT)، وباستخدام قوة اتصالات الجيل الخامس (G5). حينها، علينا أن نتصور لو رضخنا لدعوات من أطلق فتوى تحرم استخدام الحنفية العادية، بدلا من "طاسة الماء".