إيكاروس أنثى.. قصة قصيرة


لميس الزين | سوريا

رمى ابنُها أوراقَ محاضراتِه على طاولةِ المطبخِ، ودخلَ مُسرعاً إلى غرفةِ الجلوس. تناولَتها لتضعَها في غرفتِه وهي تردّدُ الموشَّحَ الذي تكرِّرُه الأمَّهات على مَسامعِ فلذّاتِ الأكباد بشكلٍ شبهِ يوميّ عن فوضاهم والترتيب والتعب الذي تعانيه. التفاتة حانَت منها لتلتقط اسماً ذُيّلَت به الصَّفحة. أعادَت قراءَته مراراً. حرفاً حرفاً. إنّه هو. لا شكَّ في ذلك، فاسمٌ مميَّز كاسمِه واسم عائلته من النادر أن يشكِّلا مُصادَفة تشابه أسماء. هو نفسُه الاسم الذي بحثَت طويلاً عن أيّ خيطٍ يرشدُها إليه وفشلَت. كم جرَّبَت كتابةَ اسمِه في صفحاتِ التواصُل وبأكثرَ من لغةٍ وبكلِّ ترتيبٍ مُحتمَل لحروفِه، ولكن من دون جدوى. أيعقلُ أن يحملَه القدرُ إليها الآنَ بهذه البساطة وبعدَ كلّ تلك السّنوات. إذا فلتسلم أنَّ الصدفَ الجميلةَ تحصلُ حقا في الحياة وليسَ في الأفلام فقط. نقلَت الرَّقم إلى هاتفِها المحمولِ ولمسَت خانةَ "حفظ" بكثيرٍ من الحبّ والحرصِ، كمَن يودِع خاتماً ماسيَّاً في علبة مُجوهرات.
تشاغلَت يداها بتحضيرِ الطعام لابنِها، فيما كانت جوارحُها تستعيدُ شريطاً تكرَّر مراراً على مدى ربعِ قرن.
كانت في السّنة الأولى للجامعة عندما لفتَ انتباهَها كطالبٍ وسيمٍ خارقِ الذّكاء، يغلبُ عليه الاعتداد بالنّفس والمُشاكَسة في النّقاش معَ الأساتذة. كانَ يكبرُ طلابَ الدفعة ببضعِ سنواتٍ، فقد درسَ في الخارج فترةً ثمَّ عاد. الأمر الذي أضافَ لثقتهِ بنفسه غروراً تجلَّى بعدم اكتراثِه بالفتياتِ اللواتي كنَّ يحاولنَ التقرُّبَ منه. فهل ستحظى وهي البسيطةُ المتواريةُ خلفَ حيائِها بفرصةِ أن يراها أمامَ حشدِ أولئكَ الجميلات المُتبرّجات.
وكانَ أن ظهرَت لها علامةُ إحدى المواد كأعلى علامة. فقال لها مازِحاً بطريقةٍ سمجة: "العز للرز". لكنَّ العبارة على الرغم ممَّا حملته من تهكُّمٍ مُبطَّنٍ، إلا أنَّها طارَت بها، ورفرفَ قلبُها الصغير، صارَت بعدها أكثر جرأةً لإلقاء تحيةِ الصَّباحِ أو السّؤال عن شيءٍ يخصُّ مُحاضَرةً ما. وبالمُقابِل صارَ يطلبُ منها دفاترَ المُحاضَرات التي يتغيَّبُ عنها. وهذا ما جعلَها تهتمُّ بخطِّها وتُولِي كراريسَها المزيدَ من العناية والترتيب.
صارَ التفكيرُ به هو القاسم المُشترَك الأعظم مع عمليَّتي الشّهيق والزّفير. حتّى تلكَ الذي تحصلُ في أثناء أداءِ الفروض الرَّبانية والصّلوات .. تعيدُ تشكيل الحوارات القصيرة التي تجري بينَهما فتضفي على كلّ عبارة ثوباً من الرومنسيّة، تلبسُها ثوبَ حبّ، ثمَّ تؤسِّسُ عليها مواقفَ وقصصاً ستحصلُ حتماً فقلبُها لا يُخطئ. أحلامها به ومعه باتت الفسحة التي تهربُ إليها وتجدُ فيها سعادتها.
ما الذي حصلَ خلالَ عطلة الصَّيف؟ لا أحد يعلم، ولم يتساءَل الكثيرونَ ربَّما. أمَّا هي، فقد كانَ اختفاؤه أوَّل صفعةٍ تلقتها من الحياة. ظلَّت لشهور ترقبُ الوجوهَ، تبحثُ عن معالمَ انحفرَت في مخيَّلتِها أكثرَ من كلمات الكتب التي تفوَّقت بها، أكثر من معالمها التي ازدهَت بحضوره و ذبلَت بغيابه ذبولاً تعدَّى الملمحَ الخارجيَّ ونالَ من ألقِ روحِها؛ إذ كيفَ للحبّ الأوَّل الذي تفتَّقَ في صبحِ روحِها أن يَمَّحيَ من الذّاكرة.
لم يغبْ، ولم تغِب أيٌّ من تلك التفاصيل القليلة التي عاشت بعضها وتخيلت الجزء الأكبر طوالَ سني زواجها الرتيبة. كلّ عبارة حبّ كانَت تعيدُه إلى الواجهة، كلُّ قصيدة غزلٍ تطرقُ سمعَها، تجري لمستقره المكين في كيانِها، كلُّ مشهدِ قبلةٍ كانَ يستحضرُ القبلةَ التي لم تحصل إلّا في مخيَّلتِها الغضَّة. كيفَ لحالمة مثلها تقتاتُ رحيقَ الحلم لتصنعَ عسلاً لحياةٍ مريرةٍ أن تنسى أولَ برعمٍ تفتَّقَ في روضِ الرّوح الفتيَّة.
قالَ لها زوجُها المرحومُ مرَّة: "أنت لم تحبينَي يوماً". لقد شعر في قرارةِ نفسِه أنَّها على الرغم من تأديتِها لدورِ الزَّوجة جسداً، إلا أنَّ قلبَها كانَ عصياً على الذَّوبان بدفء كلماته. ولا تفسيرَ لديه لذلك سوى سبَبين لا ثالثَ لهما. إمّا لأنّه نُحِتَ من صخرٍ.أو لأنَّ المشغولَ لا يُشغَل.
أنهَت غسلَ صحونِ الطعام وألقَت نظرةَ استزادةٍ على أوراقِ الابنِ المذيَّلة باسمِ الأستاذِ ورقمِ هاتفِه. ثمَّ كتبَت رسالةً نصّية رصينة وذيَّلتها باسمِها متبوعاً بعبارةِ "صديقة من أيام الجامعة إن كنتَ تذكُر"، لم يتأخَّر الردُّ كثيراً بل جاءَ أسرعَ ممَّا توقَّعَت: "طبعاً أذكرُ الطالبة المجدَّة التي كانت لي بمثابةِ أختٍ صغرى. تحيّاتي". أما الكلمات التي أعدَّتها للاتّصال الذي توقّعته منه فلم تحتجها .

 

تعليق عبر الفيس بوك