عبيدلي العبيدلي
في هذه الحلقة الأخيرة سوف نتوقف عند العلاقة المباشرة بين الجيل الخامس من التشبيك (5G) وحرب الجيل الخامس. وهي حرب لن تكون إقليمية أو قطرية فحسب، بل ستكون ساحتها العالم برمته، رغم اندلاع شرارتها الأولى في هذا القطر أو ذاك، أو هذه المساحة الإقليمية أو تلك. وقبل الولوج في ذلك، وعند الحديث عن أهم الدوافع الكامنة وراء اشتعال نيران الحروب والصراعات الدموية المرافقة لها، لا بد من التأكيد على أنها تعود في صلبها إلى واحد أو أكثر من الأسباب التالية.
1- سرعة الوصول لمصادر الثروة، أو بالأحرى المواد الخام التي تولد الثروة، ومن ثم تؤمن السيطرة الاقتصادية. وهذا ما تفسره الحروب التي رافقت الصدامات التنافسية التي ولدتها الظاهرة الاستعمارية التي بدأت في السنوات الأولى من القرن الثالث عشر، ولم تتوقف حتى يومنا هذا. ولعل في الحروب التي خاضتها دول أوروبا فيما بينها من أجل ضمان الوصول لمنابع النفط في المنطقة العربية من أجل ضمان السيطرة عليها الدليل القاطع على صحة هذه المقولة.
2- بعد الفوز في سباق سرعة الوصول، تأتي المرحلة الثانية، وهي ضمان السيطرة على تلك المواد الخام الثمينة التي تولد بدورها مصادر القوة، وعناصر السيطرة بين يدي الجهة السباقة إلى تلك المصادر. وتفسر حروب السيطرة على مصادر النفط والتحكم في أسعارها، وكميات تدفقها إلى الأسواق العالمية، التي لا تزال تدور رحى معاركها أهمية السيطرة من جانب، والتحكم في توزيع حصص تلك السيطرة من جانب آخر في تحديد مواعد الدخول في تلك الحروب، ولحظات تصعيدها، او تخفيف حدتها، أو حتى وضع حد لها.
3- ضمان موقع الصدارة في حركة الإبداع والابتكار المرتكز على قاعدة علمية، قادرة على خلق بيئة التطور العلمي. ولم تكن الحركة الاستعمارية التي سيطرت على مدى القرون الثلاثة المنصرمة على العالم بعيدة عن مراكز البحث العلمي، ولا مقطوعة عن الاستكشافات التي تتوصل لها تلك المراكز؛ من أجل تسخير نتائجها لصالح إحكام قبضتها على الساحة الدولية، وتوجيه مسار علاقاتها بما يخدم مصالح تلك الدول الباحثة عن مراكز صنع القرار، ودوائر التحكم في حركتها.
وتأسيسا على ذلك، ولفهم مولدات حروب الجيل الخامس، وفهم العلاقة بينها وبين تقنية الجيل الخامس من الاتصالات (5G)، لا بد من التأكيد على الحقائق التالية:
- أن المعلومات، أو بالأحرى موادها الخام، وهي الحقائق، تحولت إلى المواد الأساسية التي تولد الثروة، ومن ثم فقد باتت سرعة الوصول لها، والسرعة المواكبة لتحويلها من مواد خام (حقائق صماء) إلى مواد مصنعة (معلومات وبيانات مفيدة) هي العالم الحاسم في قياس موازين القوى، ومن ثم تحديد مكانة مناطق النفوذ، او بالأحرى المساحات التي تشغلها فوق رقعة الصراعات الدولية.
- أن كمية المعلومات في المرحلة الحالية تماما مثل كميات النفط الخام في مطلع القرن العشرين، هي أحد عوامل الحسم الرئيسة في معارك الحروب المعلوماتية الدائرة اليوم. وهذا ما تفسره الثورة التي تقودها مواقع التواصل الاجتماعي، أو محركات البحث، التي تركز جل اهتماماتها على تجميع أكبر كميات ممكنة من المعلومات بشأن المجتمع الذي تسعى دولها للسيطرة عليه. ثم تستخدم بنيتها التحتية الغاية في التعقيد من أجل تحليل تلك الحقائق الصماء التي نجحت في الوصول لها، ومن ثم جمعها، وتحليلها، تحت تصرف دوائر صنع قرارات دولها.
- أن الذكاء الاصطناعي أصبح عنصرا مهما في دورة حياة معالجة المعلومات، وصنع القرارات المبنية عليها. ويعتبر الذكاء الاصطناعي، سوية مع تقنيات الـ(5G)، صنوانا مرافقا لحركة السيطرة والنفوذ على الأسواق، والدول التي نشهد معاركها تدور اليوم في ساحات كثيرة من دول العالم، وليست منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها البلدان العربية، بعيدة عن هذه الظاهرة، إن لم تكن في صلبها.
- أن حروب الجيل الخامس ليست محصورة في مجال معين، كالعسكري مثلا، او حتى الاقتصادي، فهي ذات طابع شمولي، وتستخدم التكنولوجيا على نطاق واسع. هذا ما يشير له الباحث شادي عبدالوهاب حين يقول: "ولقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تصاعد حروب الجيل الخامس التي تُعرف بأنها: حرب الداخل عبر التركيز على إثارة التناقضات والانقسامات المجتمعية وتعميقها، باستخدام المواجهات العسكرية وغير العسكرية، وبتوظيف أساليب الحرب الاقتصادية والمعلوماتية والنفسية، وغيرها. وتستند هذه الحروب إلى تحالفات شبكية تضم الدول والفواعل المسلحة من غير الدول؛ سواء كانت جماعات إرهابية، أو جماعات جريمة منظمة، وغيرها من الجماعات التي لا يجمعها هدف مشترك، سوى إسقاط الدولة المعنية".
وخير من لخص مفهوم واتجاهات حرب الجيل الخامس، المرتكزة على التقدم التكنولوجي، وفي القلب منه شبكات الجيل الخامس، هو الرئيس الصيني شي جينبينج في المنتدى الاقتصادي المنعقد في مطلع يونيو 2019، في مدينة سان بطرسبورج الروسية حين أبدى "استعداد بلاده لمشاركة خبرتها، بما فيها تلك المتعلقة بتكنولوجيا شبكات الإنترنت من الجيل الخامس (5جي)، مع الدول الشريكة معها، (مضيفا) في كلمته أمام المنتدى إن "الصين مستعدة لمشاركة الاختراعات التكنولوجية مع كافة الشركاء، خصوصاً تكنولوجيا 5 جي. وتأتي تصريحاته في وقت تسعى بكين لتولي دور قيادي عالمي على مستوى شبكات الاتصالات اللاسلكية في ظل منافسة شرسة مع الولايات المتحدة، (مؤكدا على) أن الصين تسعى لإقامة تعاون مفيد (للطرفين) مبني على المساواة والاحترام المتبادل".
وأكد ما نوَّه له شي جينبينغ مقالٌ نشره موقع جريدة "العرب" -نقلا عما جاء على لسان مدير الأبحاث في شركة "جارتنر"، سيلقان فابري- جاء فيه "ويعتقد أن شبكات الجيل الخامس ستشكل ثورة تقنية واجتماعية في آن واحد؛ حيث إن المعيار القائم على الزمان والمكان سيصبح شيئا من الماضي، ولن يشكل أيّ عقبة، وهذا ما أكّده خبراء يعملون في مختبرات تطوير شبكات الجيل الخامس، فعندما نصل إلى مرحلة من تدفق المعلومات تتخطى حاجة الشخص الواحد أو قدرة جهاز على معالجة هذه المعلومات خلال ثانية واحدة، فإنَّ ذلك يعني بصيغة أخرى أننا وصلنا إلى نظام يحقق استجابة فورية لطلب المستخدم".