ساعتان من يوم امرأة


هالة عبادي | سوريا

أخذت المناقشة بين الثلاثة شكلاً وديّاً بادئ الأمر، فالأمر لا يمسّ أيّاً منهم بشكلٍ مباشر، وقد أخذ حديثهم وجهاً حكيماً مثاليّاً حدّ الإفراط، لكن فجأةً وأمام نواظرهم تجهم وجهه بانفعالٍ غريبٍ.
كانت قبله مسترسلةً بارتياحٍ بالحديث بطريقةٍ لامباليةٍ خاليةٍ من أيّة مشاعر وهي تلتقط الصّور، توقّفت قليلاً قبل أن يصافحهم زوجها مستأذناً للانصراف، وكأنّ أمراً فريداً جعلها منشدّةً تطلب منه التوقّف لبعض لحظات.
مثل هذا الطلب لو كان صادراً عنه، لقابلته بثورة غضبٍ حانقةٍ لكنّها هذه المرّة بالذات هي من تطلب، وهذا الأمر مهمٌّ تماماً كموضوع المحادثة؛ بل ربما أهمّ، حتّى أنّه لفت الانتباه إليها وقد بدا الطرف الثالث أمام سلوكها متحفّظاً بعض الشيء.
وجودها بهذا القرب جعله يؤثر الاستمرار غير الطّبيعي بالصّمت.
وقد أثرت هي إزاء هذا تصنع البلادة، لم تعر اهتمامها مطلقاً لوجود الثلاثة الّذين كانوا يتحدّثون، مشغولةً بالأيدي المفتوحة المضطربة الّتي تلتمس الأمل بتمام هذه الصفقة، خاصةً يديه وقد انتابها توتّرٌ أصمُّ وهي تتذبذب من نفادٍ صبرٍ فظيعٍ .
كانت ترتجف، ترتفع وتشبّ معبرةً عن هياجٍ من نوعٍ خاص لكنّها ترتدّ هادئةً مفصحةً عن مهارةٍ في التخطيط.
نبرات أصواتهم وحركات أيديهم كانت تعبّر عن آمالهم، أمّا هو فقد أثر الاستمرار غير الطّبيعيّ بالصمت أمام وجوده بهذا القرب، وحين قبض يده المتعبة أحسّت بهول الكارثة.
بحركة يده - وقد تضخّمت وازرقّ لونها- كان يناشدهم نهاية الجدال،  لكنّ شريكيه وقد أخذهما حديث السوق والمال لم يسمعا توسّلاته.
كان كلٌّ منهما أشبه بالمقامر في هذا اللقاء، لقد حاول كلٌّ منهما التحكّم بحركات وجهه؛ بل لقد نجحا في وضع قناعٍ باردٍ من عدم الانفعال، من اللامبالاة بالآخر، لكنّ أيّاً منهما لم يتمكّن من إخفاء ذلك التشنّج أكثر.
وها هي يده تفضح دون أيّ احتشام ما هو أكثر سريّة عندهم لقد تضخّمت وازرقّت لتحكي كلّ تلك المشاعر التي كبتها قسراّ، لقد اندفعت على الرّغم من محاولاته تركها نائمةً، كيف لا وقد بدت في أكثر حالاتها إثارةً له وهي توشوش زوجها بين الفينة والأخرى، تلتصق به أثناء السير، تلفّ بحنان ذراعه، وتهمس له بصوت لا يسمعه غيره مشفوعاً بابتسامتها السّاحرة.
كانت أصابعه النزقة بأظافرها الشاحبة ترتجف، وهي تحاول يائسةً لمسها، خليطٌ من مشاعر النبل والدناءة، التمرّد والخجل، المكر والتريّث، كانت تعصف به، لقد انفردت به نظرتها غير المبالية بشكلٍ خاصٍّ من بين الثلاثة، كانت تصرف نظرها عنه كمن تصرف نظرها عن شيءٍ فاحشٍ فجّر شيئاً بداخله.
ولأنها لم تكن ترى إلّا يديه فقد أذهلها وبشكلٍ مرعبٍ اضطرابهما، تعبيرهما الهائم بجنون وهذه الطريقة المتشنّجة في الإشارة.
كان يطفح نحوها بالحبّ، وكان وكأنه يدفع به نحو أطراف أصابعه خشية أن يفجّر كيانه بأسره.
لكن الآن وفي اللحظة التي استأذنت بها زوجها بالانصراف وحين ترفق ساعدها ساعده، كانت يده ترتخي معبّرةً عن الانهيار والخيبة، محطّمةٍ بشكلٍ يُعجِزُ الوصف، لقد قبض اليسرى بينما حاولت اليمنى أن تحرّك أطراف أصابعها، ارتعشت ثمّ بسطها على صدره.
لم يسبق لها أن رأت يدين ناطقتين كيديه، كان انفعاله جليّ الوضوح من خلالهما، وتكاد تجزم أنه لم يسبق أن رأت تعبيراً فصيحاً أصدق من تعبير يديه حتى لقد سرى الاضطراب والتوتّر إليها.
برود الثلاثة وهم يتحدثون جعلها تندفع بشكلٍ واضحٍ، وهي الّتي لم تدع نفسها لخوض النقاش معهم، لكنّها وبغير قليلٍ من الاضطراب والقلق وجدت نفسها بعد صمتها تمد يدها معلنةً نهاية الحديث، وبخطوةٍ أسرع من تلك الّتي كانت تخطوها خلال سيرهم اقتربت منه.
لقد استجمعت كلّ ما أوتيت من قوّةٍ غير أبهةٍ لأيّ تأويلٍ خاطئٍ لاهتماماتها، لم يكن من السّهل أن تتّخذ هذا القرار؛ لهذا كان ارتباكها واضحاً وهي تتوجّه إليه وبشكلٍ مباشر بالحديث .
اختنق صوتها وهي تسأله، هذه الانطباعات المؤثرة المرهقة للأعصاب جعلتها كمن ضيّق عليه في قفص الاتّهام، لم تعد تستطيع المقاومة وقد استأثر بكلّ اهتمامها تردّدت ثمّ كطفلةٍ لا تبالي بتصرفاتها قالت:
نحن جميعاً مدعوّون للعشاء عندك؟.
في هذه الثّانية انتعش تماماً، انفردت اليد المنقبضة وأخذت العينان تشعّان وقد تملّكه شعورٌ يشبه الانتصار.

 

تعليق عبر الفيس بوك