كلُّ فريدٍ صالحٍ يرحلُ وحيدًا


عبد الوهاب شعبان | صحفي بجريدة الوفد المصرية

لا أكاد أُبين من فرط شوقي للكتابة، وخشيتي منها الآن بفعل عوامل متشابكة، متداخلة، لعل أبرزها جاهزية الأظافر النحاسية للنهش المجاني لمجرد اختلاف ما في وجهة نظر.
لقد غيّر الموت بما له جلال من دوافعي، وقلتُ: ما يُكتب اليوم قد لا يدرك غدًا، ولا غد يلوح في الأفق القريب، - فكل من هم خارج إطار المشاعر الصادقة لا يتأثرون بشيء - هذا ما يجب أن تبنى عليه الحكاية.

(1)
تربينا في الريف على معانقة الفقد ليلة الوفاة، والتدثر به فيما بعدها إلى أن يأذن الله بالنسيان التدريجي، والبقاء في حيز الشجن، وإيلاف الذكرى. وعند قبر "السفير الدكتور فريد صالح عتمان" نعقت بومة الذاكرة، واستدار الزمن، ولاحت وجوه الطيبين في جوار خيالي قريب الفكرة، وقالت: ماذا خسرت بلادنا بغياب هؤلاء؟، وإلى أين يمتد خط الوصل بعدهم، وكيف؟
ومن هناك في القاهرة  ومن - مقابر الإمام الشافعي- إلى هنا- حيث الكائن المسخ فلا هو مدينة ولا هو ريف؛ بعد أن تلّحف بآلاف الأقنعة مع هبوب رياح سموم التمدين والتدين الزائفة، والقيم الاستهلاكية المستوردة -  كشبيهين في رقاد الجثامين- (غير أنها في الكائن المسخ جثامين متحركة)؛ تروح الفكرة وتغدو، وتقف على حافتها الأسئلة (أين هؤلاء الذين كانوا يتزلفون الرجل، وينافقونه عيانًا بيانًا؟ كلما جاء)، لماذا أمضى ما يزيد عن أسبوعين راقدًا في مشفاه دون زيارة من أحد؟.. تبدلت الحياة تمامًا، كأننا أُخذْنا من حيز إلى آخر، ضُرِب بينهما بسور لا باب له..

(2)
كان السفير فريد صالح - مثالي الطابع - يحلم بالأذان في بلد صماء، ويشتهي إسماع الناس، كضاربٍ في أرضٍ المستحيل بابتسامة واسعة، وأمل.. وكنت أقصُّ عليه الحكايات في جلساتنا المسائية لإثنائه عن محاولاته، فيروض نبرة اليأس، ويرسم ملامح الطموح، وقيل: يا أرض ابلعي جهلك، ويا سماء أشرقي، فأغرقنا الطوفان.

(3)
ذات مساء جاءت سيدة عجوز إلى منزلي، وطلبت ماكينة خياطة تتكسب منها لقمة عيش، وقالت: - كلم السفير يجيبها لي - نقلت له حاجة السيدة، ولم أعبأ بمستقبل الطلب، وقتها كنت مشفقًا عليه من سطوة بطانة يشوبها السوء، ولما جن ليل اليوم التالي دعاني إلى الصالة المقابلة لحجرته، وطلب الانتظار، وفي غضون دقائق فتح باب الغرفة ليخيَّرني بين 3 ماكينات خياطة، وأوصاني بنقلها ليلًا لبيت السيدة منعًا من تفسير صدقته على أنها "دعاية انتخابية".
وفي يومٍ من أيامي معه كنّا ننتظر جثمان والد أحد الأصدقاء بمستشفى القصر العيني بالقاهرة؛ فبحثتُ عنه وسط الجموع، فأخبرني أحدهم أنه ينتظر في المسجد، فدلفت إلى داخله فإذا به يختلي بمصحفه تاركًا صخب الجماهير، متكئًا على نقائه.
لكن الوقت قد تأخر، وخشينا أن يستمر التحفظ على الجثمان حتى المغرب، فذهب الرجل بنفسه خالعا ثوب الجاه والمنصب إلى عامل المشرحة، وبمنتهى الوداعة قال: أنا السفير فريد صالح، لا أريدك أن تتجاوز في عملك، ولكني أود أن تستعجل الخطوة لأن سفرنا بعيد. إلا أن بعض الأصدقاء استنكر وداعة الرجل، وتساءلوا: لماذا لم ينهر العامل؟، لماذا لا يستغل سلطته؟ فإن لم يكن فسلطة أخيه فخري صالح رئيس مصلحة الطب الشرعي، فرد بهدوء المهذبين: لا تفرحوا بمخالفة القوانين، ولا تقربوها.

(4)
خفض الجناح للناس يكتسب من البيت، يورث مع الرضاعة، وتأباه نفوس المتعجرفين. يقابل في معظم الأحيان بتنكرٍ للمعروف، ولَيٍّ لعنق الحقائق، وتصالحٍ مع الدونية المستقرة في الأنفس الوضيعة.. إننا نحزن لفقد النبلاء، لأننا نعرف يقينًا أن العملة نادرة، وأن كل حُسين يرحل وحيدًا.

(5)
رحم الله الدكتور السفير فريد محمد صالح عتمان الذي عاش منافحًا عن مثاليته، وصَّالا للرحم، قابضًا على مباديء والده في الخير، والحق، والإنسانية، ورحم الله جيل المحترمين أهل الخير والنقاء في بلادنا، وأطال عمر شقيقيه فكري صالح، وفؤاد صالح.

 

تعليق عبر الفيس بوك