رواية "اليد الدافئة" ليحيى يخلف (3من4(

...
...
...


أ.د. يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

من تداخل الحكايات إلى أسطرة السرد
أما الحكاية الثانية التي تتعربش على حكاية أحمد الأساسية فهي حكاية أبو الخير الذي كان سائقاً ومراسلاً لأحمد قبل تقاعده المبكر، حيث ظلّ هذا السائق الوفي مع أحمد يجلب له حاجيات البيت، والرسائل التي تصله من الجهات التي لم تعلم بعد بتقاعده، ويعمل القهوة له ولزائريه، وينقل له الأخبار التي يرشّ عليها بهارات من خياله: "يمتلك خيالاً مثيراً، يسمع خبراً، ويزيد عليه، يصنع للخبر أربع أرجل، وثمانية رؤوس، ويرش عليه الفلفل والبهار والشطة"، ص37.
إنّه ينقل الخبر، أو يخترعه، ثم يرويه لأحمد، ويتراجع عنه لاحقاً، دون أن يتنازل عن العبرة منه. لقد تعرّضت أرض أحمد في وادي الباذان للمصادرة، بسبب وجود الحواجز الإسرائيلية التي تسدّ الطريق الرسميّ إليها، وكان على أبو الخير، الذي تحول من مراسل وسائق إلى بطل يشبه أبطال الأساطير، أن يجد الخبر/ الحكاية المناسبة في كلّ مرحلة من مراحل الوصول إلى الأرض: فقد حمل في البداية خبراً مفاده أنّ "الجراد هاجم الأغوار بضراوة، وبدأ يأكل الأخضر واليابس"، ص36؛ ليضيف له أنّ "أرضك الرابضة بين الجبال والتلال هاجمها بأسراب تسدّ عين الشمس"، ص36، ويبني عليه تفصيلاً آخر "أخلى اليهود الحاجز، وهربوا من المكان"، ص36.
وحين يعتذر عن شائعة الجراد (التي تم تلفيقها من أجل هروب جنود الاحتلال عن الحاجز)، ينقل أبو الخير لأحمد خبراً جديداً عن الحاجز الذي يعيق الوصول إلى أرضه:
"لقد ابتعد كثيراً عن أرضك، وهذا يعني بشرى خير، فالأرض الآن لم تعد في المنطقة العسكرية المغلقة"، ص47.
وينتقل أبو الخير من ثمّ إلى خبر جديد لمعلّمه أحمد، لا يقلّ غرابة عن سابقه؛ إذ "حدّثه عمّا سمعه من سائقي سيارات العمومي عن جني يسكن أرضه، ويقول إنه رصد يحمي مغارة، المغارة فيها كنز، والكنز يحرسه أسدان، والأسدان في بطن الجبل، والجبل له ثلاث فتحات، وكل فتحة مثل فم البركان، وفم البركان يثور وينفث النيران كلّ مئة عام، وكل مئة عام يرحل الرصد، ويتوالد منه رصد جديد"، ص68.
وبعد ظهور الجني لأبو الخير، أو بعد أن تمّ سرد الحكاية، دخل في مرحلة التحوّل، وعانى مخاض الانتقال من الغرائبي غير المألوف إلى العجائبي الخيالي ، وتبدّى ذلك ذهولاً في شخصيته، وقلقاً في تصرفاته، فـ"تنقّل به أحمد من عيادة إلى أخرى، ولا أحد يصدّق روايته"، ص109. وحار الجميع في حالته ونقلوه من طبيب نفسي إلى آخر، دون أن يكتشف أحد أنّ جرح الوطن، لا جرح الروح والجسد، هو ما يعانيه؛ لذلك يقول لأحمد معلّقاً على زيارة أحد الأطباء له: "الطبيب النفسي الذي أرسلتموه إليّ، يحتاج قبل غيره إلى علاج"، ص152.
وإذ غاب أحمد نحو ثلاثة أشهر، وحيّر من حوله باختفائه، اتجه إلى الأرض، مثلما فعل وليد مسعود في رواية جبرا الشهيرة ، وكأنّ يحيى يخلف يريد أن يرسّخ، مع غيره من الأدباء الفلسطينيين، مقولة مفادها أنّ الفلسطيني حين يختفي فمعنى ذلك أنه متجه إلى الأرض.
وعند عودة أبو الخير من الأرض/ الجذر يحكي لأحمد حكاية الجني جؤذر الذي ينبجس من رحم الحكاية استكمالاً لجؤذر سمعان الذي غادر جزيرة التيه مع علي بابا نحو فلسطين. وها هو ذا أبو الخير يسرد حكايته عن أرض أحمد في الباذان؛ إذ خرج إليه عند وصوله جنيّ اسمه جؤذر:
"انشقّت الأرض وظهر لي مارد عالي القامة، يلبس عباءة تحتها ثوب واسع الأكمام (...) أصابني الرعب، فصرخ بي بصوت كزئير الأسد: اثبت يا رجل، الرجال لا يرتعشون، كنتُ أرتعش، وكان سائقو الخط قد أبلغوني أنّ هناك جنّياً يحرس كنزاً في هذه الجبال (...) وقال لي: قل لمعلّمك: ازرع هذه الأرض ودللها"، ص106.
وحين يمعن أحمد في الاستقصاء بغية كشف حقيقة حكاية أبو الخير، أو حقيقة زيفها، ينتبه الأخير للأمر، منتصراً للفكرة على حساب الحكاية، فالبيت الذي يسكنه الجني لا يمكن إيجاده، أو لا يمكن دخوله عند إيجاده، وفي الحالين ثمة انتصار لمغزى الحكاية، بغض النظر عن حقيقتها. وأنّى لرجل مثل أحمد أن يجد البيت في حضن الشجرة؛ وأنّى له إن وجده أن يفتح بابه؛ ليقابل الجني، ما دام للشجرة مفتاح، "ومفتاحها عند الحداد، والحداد يريد أجرته، وأجرته سبع سنابل قمح، والقمح عند الطحان، والطحان يريد أجرته، وأجرته عرنوس ذرة، والذرة مزروعة في الأرض، والأرض عطشانة..."، ص107.
حتى إنّ أبو الخير نفسه، وهو مؤلف الحكاية الغريبة، لا يستطيع، أو لا يريد أن يخلق نسقاً حكائياً يقود إلى لقائه مع الجني، بل يريد أن يزرع الأرض، بما يعنيه ذلك من خير ونماء وتحدّ للاحتلال:
"لم أجده، ولكنه صار يزورني في المنام. وكل مرة كان يطلب مني ان أفي بوعدي بأن أزرع الأرض، وأسقيها واعتني بها، وقد فعلت"، ص154.
وإذ يعود حاملاً لأحمد كيساً من الخس من أرض الباذان يعطيه واحدة، ويخبره أنّ "هذه الخسة من إنتاج ارضك"، ص151.  ويرفع من قدرها؛ حتى تكاد تكون قصيدة وطنية:
"انظر خسّة مثل الوزّة، لها طراوة أوراق النعنع، ومذاق السنّارية، والشومر والهندباء، إذا جمعتها معاً (...) جرّب مذاقها. إّنها من الأرض التي تحبّها، من الأرض التي كان سمادها عرق أجدادك"، ص152.
لقد تغيّر أبو الخير كثيراً، تطوّر كلامه وفكره إلى درجة جعلت أحمد يتساءل: "أيكون حقّاً هذا أبو الخير"، ص153، وقد جاء تغيّره طبيعياً، لأنّ تعلّم في مدرسة "جؤذر"، ومن ورائه الأرض ذات الحواس الخمس: "علّمني جؤذر أنّ للأرض حواساً خمساً، ولترابها ملمس مثل ملمس الحناء، ولها عطر نشمّه في النقاء بعد المطر، ولها عيون ممثلة بالينابيع التي تنبجس من أحضانها"، ص153.
وقد عمل أحمد على تسويغ التغيّر الذي طرأ عليه، فقال: "كيف خرج من شخصية السائق والمرافق المطيع إلى شخص آخر، وشخصية أخرى.. لعله عرف الطريق"، ص174. وما دام أبو الخير قد عرف الطريق، فقد أصبح مادة دسمه لحكاية جديدة يرويها أحمد لصديقه سمعان الذي تحوّل من مادة حكائية إلى متلقٍ. يقول أحمد لسمعان الناصري عن أبو الخير:  
"هو الساحر الذي أيقظ الأرض من سباتها، ورفعها إلى المكان الذي تستحق (...) واخترع لها قريناً سمّاه جؤذر، جؤذر الذي خرج من حكاية علي بابا الذي يتدثر في عباءتك"، ص181. هكذا سحَرَ أبو الخير معلّمَه أحمد إذ صنع أحلامه وأشواقه، بما يليق بالأرض، وانتزع جؤذر من باطن الحكايات، "وزرعه فكرة، وشجرة، وجذوراً، وبراعمَ، ونوّاراً، وزهوراً، وأجراس ميلاد، وأذان فجر، وتراثاً حضارياً، بعفوية ابن البلاد وسجاياه، وصفاء قلبه، ونقاء سريرته"، ص229.
يتنقّل أبو الخير إذاً من الواقع الذي كان فيها مراسلاً وسائقاً، إلى الحكاية، ثم يعود إلى الواقع ثانية؛ فيحمل معه أحمد إلى الحكاية من جديد؛ لكي تصبح واقعاً يعيشه الفلسطينيون. يقول أبو الخير لأحمد : "غداً آتيك باكراً، ومعي سيارة جيب، وأصطحبك هناك، إلى الأرض"، ص155، فيتفق أحمد مع نيرمين وهياتارو على الذهاب معه في رحلة "العودة" إلى الأرض. وإذ يصلون تدرك نيرمين، مثلما أدرك أبو الخير، دلالة القصة، فتنصح أحمد الذي كان "ينقّل بصره عن بعد، لعلّه يلمح الشجرة الرومية التي زعم أبو الخير أنها فتحت فجوة، ودخل جؤذر لينام في حضنها"، ص174، ألا يتعب نفسه في البحث، فالأفضل أن تبقى "القصة غامضة، كحكايات الجدات"، ص175.
ولأنّ أبو الخير مصرّ على إكمال حكاياته/ خرّافياته فإنّه ينتقل إلى خرّافية أخرى هي خرّافية جُبينة، لا ليرويها، بل ليعيشها. وإن كان المؤلف يخلط بين خرّافتيْ جبينة  وسرايا ، فإنه يجعل
جبينة/ الخرافيّة يخطفها الغول، ثم يحّررها ابن عمّها، وجبينة الواقع يخطبها أبو الخير، ويُقام عرسهما في نهاية الرواية؛ بما يعنيه الزواج من تناسل. وهذا يعني أنّ أبو الخير لن يكتفي بتحويل الخرافية إلى واقع، بل إنه يسعى إلى توريثها أيضاً لجيل يقضي على الغول، ويخلّص جبينة/ سرايا من سجنها إلى الأبد.
بقي أن نضيف هنا أنَّ العلاقة بين الحكايتين اللتين تتمحوران حول جؤذر وثيقة جداً: الأولى يسردها أحمد عن سمعان الناصري الذي تلبّس شخصية علي بابا، وطورها، وأعطاها في النهاية انتماء فلسطينياً، والثانية: عن أبو الخير الذي جعل أحمد ذاته جزءاً من مادة حكائية، يتلاعب هو وجؤذر بخيوطها، فيعرض أحمد عرى العلاقة بين الحكايتين، كما يتضح في السياقات التالية:
•    "هكذا أنهيت يا علي بابا الحكاية التي لفّقتها وبدّلت فيها وغيّرت. جعلت حصان البحر يطير بجؤذر بن عمر إلى جبل النار، يأتي إلى وادي الباذان، ويصبح ملك الجبال والوديان والبساتين، وملك الذئاب والطيور في أعشاشها، ومرقده الكهوف والسراديب وجوف الأشجار"، ص131.
•    "هل ما قاله أبو الخير واقع أم من نسج الخيال؟ وهل للأرض قرين كما يقال؟وهل من يسمّى جؤذر هو قرينها؟"، ص167.
•    "تنتهي حكايته عندك؛ لتبدأ حكايته عندي، أيكون جؤذرك هو جؤذري؟"، ص155.
•    "أيكون حصان البحر قد عبر به البحار، وطار فوق اليابسة، وعبر الحدود دون أن يمرّ على الحواجز الإسرائيلية، وهبط به على مرتفع من مرتفعات الباذان"، ص156.
.............................
الهوامش:
  الفرق بين الغرائبي والعجائبي أنّ أحداث الغرائبي تتناول الواقع من زاوية غير مألوفة، فهي معالجة غير مألوفة للواقع المعاش، بحيث يمكن فيها التّحرّر من قيود المنطق وقوانينه؛ أمّا العجائبي فإن أحداثه تنطلق من الخيال، لا الواقع، وتمتاز بأنّها خياليّة صرفة.
  لا نقصد هنا تطابق حكاية أبو الخير، مع حكاية اختفاء وليد في رواية جبرا "البحث عن وليد مسعود"، المنشورة عام 1978، بل نقصد أن العظة من اختفاء الرجلين واحدة؛ فليس من المنطقي أن نقارن بين حكايتي الاختفاء عند جبرا ويخلف؛ إذ تقوم رواية جبرا برمّتها على هذه الحكاية، بينما لا تشكّل لدى يخلف إلا مساقاً حكائياً فرعياً.
ـ إميل حبيبي: سرايا بنت الغول، رياض الريس، لندن – قبرص، 1992، ص11.
ـ د. فوزي الزمرلي: شعرية الرواية العربية (بحث في تاصيل الرواية العربية ودلالاتها)، مؤسسة القدموس الثقافية، دمشق، 2007، ص204.

 

تعليق عبر الفيس بوك