رواية "اليد الدافئة"(2من4)

...
...
...


د. يوسف حطيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

من تداخل الحكايات إلى أسطرة السرد
ثانياً ـ حكاية الحكايات:
تنطلق الرواية من حكاية الشخصية الرئيسية أحمد أبو خالد الصحفي والإعلامي الذي يتقاعد، ويصطدم بالفراغ، فيملأ جزءاً من فراغه بالحب وجزءا بالكتابة، بينما تملأ شخصية أخرى هي أبو الخير الجزء الآخر من حياته؛ لأنّ بقاءه دون إشغال الفراغ سيجعل تقاعده لا يطاق، وسيجعل وضعه الجديد لا يُحتمل، وهو ما بدأ يلمس آثاره بشكل متدرّج:
•    "عندما يستيقظ تبدأ حيرته"، ص9.
•    "لم يعد يستيقظ ويتناول وجبة الإفطار على عجل، ثمّ يلبس ملابسه، ويلمّع حذاءه، ويخرج هابطاً درجات العمارة من الطابق الثالث برشاقة وحيوية، ويركب سيارة هيئة الإعلام التي تكون بانتظاره؛ لتقلّه إلى مكان عمله"، ص11.
•    "وجد نفسه في أغلب الأيام حبيس البيت، يراقب التلفاز شارد الذهن، يجلس مع الجدران والكراسي والطاولات"، ص13.
•    "كان هاتفه لا يكفّ عن الرنين طوال الشهر الأول من تقاعده (...) لكن بمرور الأيام، صارت المكالمات وتخفّ وتتناقص حتى كادت تتلاشى"، ص9.
يقدّم السرد حكايات متداخلة من ثلاثة أجزاء: ففي الجزء الأول يقدّم حكايته الرئيسية: حكاية أحمد الأرمل مع نيرمين، التي يتعرف إليها عن طريق الدكتور نادر، ويرى فيها صورة الأنثى الكاملة، فهي رقيقة وجميلة ومناضلة، يلتقيها عدة مرات، ويتحدثان عن الأسرى ومقابر الأرقام والتظاهرات، وتعرض عليه عملاً، فيقبل متبرعاً، "ويحس أنها ترغب في إدخاله إلى دفء العائلة"، ص89، ثم تتطور علاقتهما شيئاً فشيئاً؛ لتصل في نهاية الرواية إلى خطوبة تباركها ياسمين، ابنته التي جاءت من الإمارات، لتضع وليدها بين أهلها.
وثمة حكايتان تتعربشان على الحكاية الرئيسية: الأولى هي حكاية الرواية التي يكتبها أحمد عن صديقه سمعان الناصري، "كان يفكّر بكتابة رواية، روايته الأولى، وفكّر في (حدّوتة) تتضمن متعة فنية، ولم يجد (حدوتة) ممتعة أفضل من حكاية سمعان وصوفي"، ص20.  سمعان الذي سافر إل ألمانيا، وتعرّف إلى السمراء الصومالية صوفي، وأحبها، وأحبته، قبل أن يختلفا؛ ليعملا معاً من جديد في "نادي علي بابا" الذي تؤسسه، وينتهي الأمر بها إلى رحلة مخفقة نحو فلسطين، بعد منعها أمنياً من الدخول.
أما الحكاية الثانية فهي حكاية أبو الخير، سائق أحمد ومراسله قبل التقاعد المبكر، الذي تطورت شخصيته تطوراً كبيراً، وتحوّل إلى بطل ثوري استطاع مع رفاقه أن يزرع أرض أحمد وأن ينقل جثامين بعض الشهداء إلى مكان يليق بهم.
في حكاية الرواية التي يكتبها أحمد عن سمعان الناصري يتعرض أحمد لحالة الكتابة ذاتها، وما تسببه من أرق وتوتر للكاتب فقد "كانت تنتابه، وهو يشرع في الكتابة ما يشبه الحمى"، ص21، ويعود جزء من توتره إلى صعوبة الحياة في المكان الذي يحيط به، فهو مكان "مناسب لكتابة كوميديا بمذاق البلوط المرّ"، ص43.
ولا يكاد يدخل سمعان الناصري إلى الرواية التي يكتبها أحمد عنه إلا خرجَ ثانية إلى عالم الواقع. وبين عالمي الخيال الأدبي، والواقع المرّ تترجح شخصيته، وتنمو شيئاً فشيئاً. فسمعان الذي يتموقع خارج الرواية "هرب أو انسحب بعد الخروج من بيروت، وبحث عن حياة جديدة بعيدة عن مرمى النيران"، ص56. وهو يظهر في كل مرة؛ ليسأله الروائي أحمد عن كيفية الاشتغال على الرواية التي يكتبهاعنه، من مثل ما نقرؤه في السياقين التاليين:
•    "هل نبدأ من حيث انتهيتَ؟ أم نبدأ من حياتنا والطريق الذي سلكناه معاً من معسكر التدريب إلى الحياة في القواعد والكهوف؟ (...) هل نبدأ من الغرفة الصغيرة التي تضاء ليل نهار، واتّخذت منها مرسماً؟ (...) أم نبدأ برحيلك بعد الخروج من بيروت إلى ألمانيا"، ص57.
•    "من يكتبها ابتداء من شبابك المبكر حين التحقت بقواعد الفدائيين؟"، ص65.
ويلاحظ هنا، وفي رواية أحمد عن سمعان كلّها، أنّ الروائي يصنع من البطل شخصية قريبة، يضعها مقابله ليخاطبها؛ لذلك يستخدم في روايته عنه أسلوب المخاطب الذي يعدّ من أندر الأساليب في السرد العربي، ولا يكاد يساوي شيئاً مقارنة بأسلوب المتكلم الذي يُستخدم على نطاق أوسع بكثير، وأسلوب الغائب الذي يطغى على المشهد السردي.
وقد أتاح هذا الأسلوب النادر أن يتخّذ سمعان في بعض الأحيان موقعاً بين الواقع والحكاية، إذ يستحضر أحمد صديقه سمعان/ لا شخصيته الروائية، وهو يستحثه على إكمال الحكاية، أو يستحضره؛ ليخبره أين أصبح موقعه في الحكاية، أو للحديث عن علاقة خاصة بينهما، أو حادثة جمعتهما معاً في الواقع؛ لينتقل بها إلى الحكاية، ولتوضيح ما سبق يمكن أن نستشهد بالسياقات التالية:
•    تذكّر صديقه سمعان الناصري، وشعر كما لو أن سمعان يفتقده، كما لو يعرف أنه صار شخصية روائية لها حضورها في هذا البيت، وكأنه يستعجله في إكمال الحكاية"، ص65.
•    تركتك في ليلة سابقة، وأنت تحقق نجاحاً وفوزاً كفنان تشكيلي في مساحات برلين ولايبزغ ودريسدن"، ص78.
•    "تركتُك أمام الباب المغلق، وصوفي تأمرك بالرحيل"، ص111.
•    "أكتب عنك لأنني وجدت في حكايتك ما يمكن أن أجد في كتابة ممتعة؛ فغربتك الخارجية هي غربتي الداخلية، وكلانا واقف طويلاً على رصيف الثورة"، ص79.
أمّا حكاية سمعان في الرواية فقد تخلّقت بعد خروجه من بيروت عام 1982، إذ  تعرف على صوفي التي تشبه الشوكولاتة في ألمانيا، وذاق معها مرارة الأيام الأولى، وحلاوة الأيام التي  لحقتها، وكسب مالاً وحصل على شهرة، متّكئاً على دفء صوفي وحنانها، غير أنّ سمعان لو يكتفِ بحبّ تلك السمراء، وها هو ذا أحمد/ الروائي يخاطبه قائلاً:
"لم تكتفِ بحب تلك المرأة التي لها طعم الكاكاو، ودفعك الشبق إلى التوجه للشقراوات الفاتنات بالغواية وأساليبها"، ص78.
هنا تنشأ أزمة في علاقة العاشقين، وتصنع صوفي مستقبلها بعيدة عنه، فتسافر إلى مصر، وتعود لافتتاح نادٍ ليلي اسمه "علي بابا"، مستفيدة مما شاهدته من أجواء شرقية سحرية في مصر. وعندما اشتهر المقهى، وضاقت السبل بسمعان حاول مصالحتها، فأمرته بالرحيل، ثم قبلت بعد وساطة أن يكون موظفاً عندها؛ إذ عرض عليها أن يكون علي بابا ذاته:
"أشتغل عندك علي بابا، ألبس ملابس علي بابا، وأنتحل شخصيته، وأقدّم فقرة في برنامج الصالة كحكواتي، وأسرد كل ليلة حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، وبما أنا الصالة تحمل اسم علي بابا، فسيكون ذلك تعريفاً بدلالة اسمها"، ص111.
وفي نادي "علي بابا" يستثمر سليمان الناصري كل ما ورثه من سحر الحكاية الشرقية، وتوتّرها، وينجح نجاحاً مبهراً؛ إذ يغدو كأنه خارج من رحم ليالي ألف ليلة وليلة. لقد سحر الجمهور، وسحر صوفي، ونجح في التجربة، وكرّس نفسه شهيراً وناجحاً مثل قطعة الشكولاتة التي يحبها:
"تتوقف عند نقطة ذروة الحبكة، وتقول لجمهور: نلتقي معكم غداً؛ لنواصل سرد الحكاية. يتشوق الجمهور، ويطالبك بتتمة الحكاية، وتعيد الكلام: نكمل الحكاية غداً. وهكذا سرقتَ قلوب الجمهور الذي يستمتع بالرقص والقص معاً"، ص112.
غير أنّ الحكاية جنحت، بعد ذلك، من وراثة ألف ليلة وليلة إلى صناعتها، أو التغيير بمصائر أبطالها، لصالح علي بابا الفلسطيني الذي يعيش في داخل سمعان، وهذا ما جعل الحكاية التي تنامت إلى حد الإدهاش تقف عند نهايتها؛ ذلك أنّ حكايات علي بابا الفلسطيني لم تعجب المشاهدين من ذوي العيون الزرق، على الرغم من طرافتها وغرابتها واندماجها في نسق الحكاية الأصلية:
"اخترعتَ حكاية من ألف ليلة وليلة، وجعلتَ جؤذر يرافق السندباد، ويشاركه في التجارة في رحلته الأولى، وينتقل من جبل النار هنا في فلسطين إلى بغداد في قافلة تضمُّ عشرين بعيراً"، ص127.
في حركة سردية سندبادية مألوفة، ترسو الرحلة البحرية على شاطئ جزيرة، يكتشفون فيما بعد أنها سمكة عملاقة. وإذ تتحرك، عندما يشعلون النار، يتيهون في البحر. وهنا يزعم علي بابا الفلسطيني أنّ "جؤذر" تعلّق بقطعة خشب أوصلته إلى جزيرة، يقوم أهلها باستدعاء حصان البحر لتلقيح فرس من عندهم من أجل إنتاج مهر لا مثيل له:
"يربطون الفرس الأصيلة بالسلاسل، فيأتي حصان البحر ويجدها مربوطة فيثب عليها، ويركبها ويلقحها، ولما يفرغ منها يرغب في أخذها معه إلى البحر، فنخرج له بالسيوف ونطرده، ونأخذ الفرس الملقحة إلى سرداب، ونبقيها حتى تلد مهراً مطعّماً من تزاوج البر بالبحر"، ص130.
وفي تتمة الحكاية يشكو جؤذر (الفلسطيني التائه)، إلى أهل الجزيرة شوقه إلى بلاده، ويطلب منهم أن يصيدوا له حصان البحر حتى ينقله إلى هناك. وها هنا تنتهي حكاية سمعان الناصري قبل أن يتحوّل في حركة سردية ذكية، من مسرود عنه إلى مسرود له؛ إذ يعمد يحيى يخلف بعد ذلك إلى تغيير موقع السارد، وتغيير موقعي أحمد وسمعان من السرد، حين يحكي أحمد لصاحبه عن وادي الباذان:
"أنت لا تعلم يا صاحبي أنني ورثت هذه الأرض عن والدي. عندما عدت إلى الوطن بعد اتفاقيات أوسلو، كانت منطقة عسكرية مغلقة للجيش الإسرائيلي، ومنطقة استيطان، وتسنّى لي أن أزورها من خلال طرق جانبية غير معبّدة عدة مرات، دون المرور على الحاجز اللعين"، ص181.
وتنتقل حكاية جؤذر من سمعان إلى صديقه الذي يستلم تتمتها، فيصبح خيال سمعان منفتحاً على واقع أحمد الذي صنع منه أبو الخير في فلسطين، وفي وادي الباذان تحديداً، واقعاً غرائبياً سحرياً:
"هناك دخلتُ مملكة جؤذر الذي أحييتَه بعد ممات"، ص179.
أما صوفي فتبقى في موقع المسرود عنها إلى اللحظة الأخيرة، وتقترح على سمعان أن يضمهما بيت واحد وفراش واحد، على ألا يكون هذا البيت في "مكان يُقتلُ فيه الأطفال"، ص159؛ وتشير إلى أنها تحبّ أن تعيش في البيئة البكر: "هناك في جبال الألب، في قرية زراعية، سكانها بسطاء، وتخلو من شوائب المدن والعواصم"، ص159. غير أنّها في نهاية الحكاية لا تنسى عشق معشوقها فلسطين، وتأتي إليها غير أنّها تمنع من دخولها لأسباب أمنية؛ ذلك أنّ أن صوفي والقادمين معها ينتمون إلى حركة المقاطعة الدولية BDS التي تعمل على عزل الكيان الصهيوني في المجالات السياسية والاقتصادية والأكاديمية.

 

تعليق عبر الفيس بوك