ثقافة التنوع وأهمية الاعتراف بها


د. نادية هناوي الكعبي | العراق
الاعتراف بالتنوع الثقافي هو قبول بالآخر ومحو للقطبية وتوجيه للحياة الاجتماعية باتجاه يرى الثقافة عابرة للحدود، وما دام الممثلون لها مؤمنين بالانفتاح تواصلا واندماجا، لا تحتاج جوازات مرور أو تأشيرات دخول أو خروج. ومتى ما وصفت ثقافة شعب بالانغلاق والتجذر، فذلك يعني أن الممثلين لها هم المنغلقون والمتقوقعون الذين لا يسمحون بالنماء والتبرعم ولا يرحبون بالتطور والانتشار، ولكن كيف نستطيع أن ندلل على مقولة إن التنوع الثقافي لا تضاد التباين في الهويات والأعراق ولا تصطدم باختلاف اللغات والعقائد ؟.
لعل الجواب يكمن في الاستراتيجيات التي تحقق تمثيلات العبر ثقافي ومنها أن تغدو الذات الفردية غير منصهرة ولا مذابة في المجموع، وفي الوقت نفسه مندمجة متفاعلة معه. وهذا التلاقي الطوعي بين الفردانية الذاتية والكليانية المجتمعية سيحتم الشعور بمواطنة تطامنية تتمظهر فيها الذات ممثلة لنفسها أولا ومتقاسمة مع غيرها آخرا، بلا ولاء لنموذج أو مركز.
وهذا الفهم المتحرر والمنفتح في النزوع نحو الذات كقيمة مستقلة مع الاعتراف بالجماعة كقيمة رمزية هو الذي يوصل إلى ما يسميه أفلاطون تيموس اي إحساس الإنسان الفطري بالعدالة. والمجتمع العبر ثقافي مجتمع حضاري يؤمن بالتعايش الاجتماعي والتحرر الفكري والتبادل المعرفي متخذا من الثقافة وتنوعها رأسمالا يجمع الأطراف بالمراكز سواء بسواء، من أجل إنتاج صناعي جديد هو عبارة عن تمثيلات ترتهن بأمرين ثقافيين: أولهما ثقافة الاندماج وثانيهما ثقافة التواصل.
ولعل أهم مخرجات العبر ثقافي هو الاندماج النوعي الذي يناوئ ثقافة التقاطع والتضاد والذي به تتأقلم المجتمعات ضمن عالم نسقي يقوم على اللانمذجة واللامعيارية، بقصد إخراجها من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كأن يُصلح التراجع في المستوى المعيشي أو حالة العطب في التنشئة الاجتماعية أو انهيار القيم الأخلاقية. ولا يعني الاندماج الاجتماعي تشويه الثقافة المحلية أو النيل منها بالاستهلاك والتهشيم؛ بل هو الاختلاط أو الامتزاج الذي يكفل تحقيق التضامن بين المجتمعات المتنوعة ثقافيا ويفتح آفاق التفاهم بينها.
وهذا ما تؤكده نظريات علم الاجتماع التي بينت فاعلية التنوع في تجاوز سلبيات أخلاقية وأزمات اجتماعية تتعلق بالبطالة والفقر والتهديد والإقصاء والكبت والتضييق والإدمان..الخ
ومتى ما امتلك الإنسان الرؤية العقلانية بمعناها التماثلي التعميمي والاشتراكي، فهو كائن متعدد في فهم العالم ونسقيته القائمة على الاندماج بكل صنوفه.
 وما تحول الدول إلى فيدراليات وكونفودراليات وانظمة ومؤسسات دولية الا انعكاس للتقارب الثقافي بين شعوب العالم .وللاندماج صورتان فأمّا الصورة السلبية فتمثلها الثقافة التقليدية الفوقية الاستهلاكية التي تحصر الاندماج في إطار مركزي نخبوي يبحث عن نموذج أمثل ونمط أعلى كما يظهر في تعايش الأقليات الاثنية مع الأغلبية القبلية أو العرقية أو العنصرية وعادة ما تعاني هذه الأقليات من انمحاء ثقافتها في ثقافة الأغلبية.
وأمّا الصورة الايجابية للاندماج فتمثلها الثقافة الحرة أو اللاتقليدية التي هدفها الوصول بالاندماج إلى أقصى نقطة في المجتمع من دون تمييز بين ما هو نخبوي وما هو شعبي مع تكريس العناية بالمهمش بهدف لملمة أحادية ثقافته، وجعلها مجموعة في كلية واحدة بعيدا عن التشرذم والاندثار. وهذا ما سيحميها من النضوب والنسيان ويجعلها ممتلكة القوة والسطوة التي بها تستطيع مجابهة مظاهر الهيمنة الامبريالية، صامدة بوجه القطبية.
وعادة ما توجه ثقافة الاندماج صوب العوامل الثقافية على اختلاف مستوياتها وتباين مظاهرها بهدف جعلها متطامنة بنفعية ومتكاتفة بمصلحية. والاندماج صيرورة علائقية لاستثمار الفرد والجماعة على وفق منظور سوسيوثقافي يرتهن تحقيقه بوضعية الفرد والمجتمع أولا، وسيرورة القيم الثقافية ثانيا، وضوابط السلم الاجتماعي ومؤسساته الرسمية ثالثا.
ومن الوهم تشكيل اندماج يقارع سلبيات الأقلمة محاولا محو المحلية باتجاه العالمية؛ إلا إذا تضامنت الشعوب المقهورة ضد الامبريالية الاستعمارية، وسعت إلى التحرر من تسلط نموذج معين. وعندذاك ستنشط العلاقات الثقافية التي بها تخرج الثقافة الواحدة من الضيق والتقييد والاحتماء والمراقبة والتعالي والطبقية باتجاه التواصل والانفتاح على مختلف الصعد. وهو ما كان قد شهده المجتمع العربي أبان القرنين الثالث والرابع الهجريين حين اختلط العرب بالأقوام المجاورة فنشطت الترجمة وتداخلت العلوم وتوسعت حركة التبادل الفكري، الأمر الذي أنعش ميادين التحاور والتفاهم والتقارب بين الشعوب.
وقد أشار كلود دوبار إلى أن الاندماج لا يضر الهوية الشخصية؛ بيد أن تحقيق الاندماج المجتمعي لن يكون إلا بوجود قنوات التواصل التي أوجدتها مرحلة ما بعد الكولونيالية وبها استطاعت توكيد أهمية التقريب بين الشعوب على وفق نظام عالمي جديد، تأخذ فيه مسألة التنوع بعدا شموليا. ويعد التواصل تمثيلا صانعا لحياة ديمقراطية عبر ثقافية؛ بوصفه فعلا حرا لتفكير ناقد بنّاء يحقق أدمجة لا تميت الخصوصية وإنما تتجاوز حالة العزلة والتقوقع. ويحتاج التواصل إلى فلسفة وعي أو عقلنة، كي يندرج فعله في عقلانية تنويرية تُعلي العقل وتنبذ العنف ولا تحتكم إلى القوة، فضلا عن تأهيلها للمجتمع ثقافيا وبما يوازن بين كفتي الثقافة المحلية والثقافة العالمية، لكن ما الأوجه التي بها يحقق التواصل تصنيعا ثقافيا ذا وجه تحاوري وتفاعلي ؟
ليس يسيرا الإجابة عن هذا السؤال؛ لكن المؤكد أن هذا الوجه لن يكون فيه انتهاك للسيادة أو خرق للسياسة بل مأسسة للثقافة لتغدو فاعلة شأنها شأن الاقتصاد والتعليم والصحة، وهنا تكمن رهانات التواصل ومفارقاته. والثقافة التي يراد صنعها ليست أحادية المعنى لأنها ستتضمن تعددا نوعيا ودلاليا، وستغدو لها بسبب التواصل قاعدة شمولية، تدخل فيها الهويات والترجمات والإعلانات للماركات العالمية والأزياء والأنوثة والطبخ.. الخ.
وعقلانية التواصل في استحداث تكنولوجيات الإعلام وتوفير ميكانيزميات التواصل، هي التي ستسمح بانتشال التنوع من الانحباس والاختناق والتقوقع وستعمل على استثماره في أكمل صورة وبما يحقق التفاهم البنّاء بين شعوب العالم.
ومن المهم الاشارة الى أن هناك فارقًا بين التواصل كفعل إفهام عمومي وبين التواصل كفعل إنتاج ووعي أدبي وثقافي، والسبب أنَّ الأول داخل ثقافي يندرج فيه الإعلام الجماهيري  بالحداثوية التكنولوجية التي تجعل المجتمع مغتربا عن نفسه. وخطر هذه الحداثوية لا يقابله إلا خطر التقوقع، بينما الثاني عبر ثقافي يندرج فيه الداخل ثقافي بوسائل التواصل الاجتماعي ووسائطه الرقمية الافتراضية والصورية.
ولقد لعبت بعض البرامج التفلزيونية دورا عالميا لأنها انبنت على فكرة الاعتراف بالتنوع فحققت اندماجا بين مجتمعات مختلفة، كما في القنوات التي تبث أخبارها وبرامجها بلغات مختلفة، بينما تعمل الإعلانات التجارية المروجة لثقافة الاستهلاك على تكريس الهيمنة الامبريالية، ولا ننسى أن بعض برامج تلفزيون الواقع تدخل تحت هذا التوصيف الأخير أيضا. وليس القصد من صنع نسخ مختلفة من هذه البرامج الاعتراف بالتنوع، وإنما معناه الإبقاء على ثقافة الاستهلاك التي بها تضمن الامبريالية لنفسها الغلبة والتفوق، فارضة على الشعوب المستهلكة الخضوع والتبعية. وقد أكد فوكاياما أن شعوب الشرق الأدنى والأقصى والأوسط تمتلك عوامل ثقافية ـ ولاسيما عامل الدين ـ تجعلها موجهة للمجموع أكثر من الأفراد. وكان المفكر الفرنسي بورديو قد قرأ وجوه الاغتراب في المجتمع الرأسمالي متكئا على مقولات تكشف عن العنصرية والعنف والهوية المأزومة.
عموما لن تمتلك مجتمعاتنا العربية ثقافتها الحقيقية ما لم تكن لها منظومات إعلامية تواصلية فاعلة تكرس برامجها باتجاه انفتاحي بناء، يستند على قاعدة وعي صميم وإدراك عال بأهمية استثمار التنوع من أجل تغيير مسارات حياتنا.

 

تعليق عبر الفيس بوك