قصة قصيرة: من دفتر عشق رجل مجهول


د. حسام إلهامي | القاهرة

(1)
تبًا لنا نحن البشر! حتفنا في اشتياقنا، في تعلقنا بالأشياء، في انجذابنا لها، في ارتباطنا بخيوطها الواهية، في مطاردتنا العبثية لظل يقين يتأرجح دائمًا بين شكين؛ شكٌ في إمكان الفقد، وشكٌ في إحتمال النوال.  
برغم عزلته والحيطة من آفة اشتهاء أشياء لا نوال لها، وقع فيما كان يحتاط منه، وكان ما كان، أو بمعنى أدق، كان ما لم يكن!.  
كانت حياته غريبة، واختفاؤه أشد غرابة. اختفاء لم يشعر به أحد. فقد كان أثره فيمن حوله لا يعدو أثر جناح فراشة في الغلاف الجوي. ورغم أن علماء الرياضيات جادلوا بأن هذا الأثر لا يساوي صفرا، أثره هو فيما حوله كان يساوي صفرًا، فغاب دون أن يبحث عنه أحد.
وحدي قررت أن أواصل البحث عنه، بعدما أسرَّ ليّ بكل شئ. أطالع الآن آخر ما خطه من أوارق في دفتره الشخصي قبل أن يختفي. حتمًا سأجد فيها ما يشير إلى سر هذا الإختفاء الغريب.
(2)
هذا نص ما كتب عن نفسه..
كان من ساكني هوامش المدن، أورامها التي يتطلب إعمال المنطق إزالتها، وإبعاد من فيها إلى اللامكان. بمجرد إدراكه لطبائع الأشياء، وبعد تأمل وتفكير عميق، قرر أن يعتزل محيطه قدر الإمكان. قنع أيضًا بحياة رتيبة، إخلاص للاعتياد، سيرٌ في رِكاب السائرين، ردود فعل باهتة، كلمات مقتضبة. إذعان مغلف بالصمت لرغبات الآخرين، انكسار في غير مذلة، حزن كامن في عين زابلة انطفئ فيها الطموح، زهدٌ في الجدل، ترفع عن اللهاث خلف أشياء تتحرك بمقادير، بُعدٌ عن نضال لأجل تصرفات وأفكار العبث ذاته أكثر منها رشدًا.
حتى كان ذلك اليوم الذي وقع فيه ما وقع، واخترق حياته، وحطم أسوار عزلتها، وقلبها رأسًا على عقب.
(3)
بدأ الأمر برسالة مقتضبة اقتحمت بريده الإلكتروني. دعوة باسمه لحضور لقاء سيجمع زملاء دراسة الجامعة بعد 10 سنوات من التخرج.
طالع الرسالة عدة مرات ثم أغلق شاشة حاسبه المحمول ببطء، ضربات قلبه فرضت سطوتها على إدراكه. كان الجرح قد صار نقشًا أثريًا، فجاءت تلك الرسالة لتفتحه على مصراعيه في سادية.
تساءل: كيف تذكروه؟! كان أقلهم تواصلاً وأكثرهم اختفاءً، وحتمًا أقلهم شأنًا بعد أن رضي بأول وآخر وظيفة عُرضـت عليه، وسيبقى فيها للمعاش أو للممات؛ أيهما أقرب!.
تذكر أنَّه ارتكب خطيئة كُبرى يوم زاحم بمجموعه الكبير ساكني كليات القمة، معتقدًا أنَّ معايير الحياة ربما تكون مطابقة لمعايير القبول بالجامعات!.
بعد تفكير توصل إلى أنَّ الدعوة أرسلت بناءً على كشف ورقي بالأسماء، فنحن لا نتساوى إلا في الأوراق، أما حين تتجسد الأسماء بشرًا تظهر شبكة الحتميات والعقد النفسية البلهاء التي تصفف البشر وفق صفات وخصائص أشد بلاهة، إيمانًا بعقيدة شيطانية مفادها أن هناك بشرًا أجدر بنوع من الحياة عن غيرهم.
تردد طويلاً في قبول الدعوة، أيذهب ويغامر، ويثأر لنفسه؟! أم أنها ستكون القاضية التي تكسره مجددًا؟! أيسمح بقرار منه أن يمد أحدهم يده إلى قلبه ثانية ينتزعه منه بلا رحمة؟! أيذهب لإنه سيراها، فقط سيراها هذا كل ما في الأمر؟! أم أن شيئًا لن يجد نفعًا وليس ثمة ما يدعوه لكسر حاجز الصمت بينه وبين صخب الحياة الذي فارقه حرًا مختارًا؟! أم ماذا يفعل؟!
وجد نفسه بشكل لا شعوري يفتح شاشة الحاسب على مصراعيها، وينقر ردًا يُشي بقبول حضور اللقاء. قبل الدعوة وهو يُضمر في نفسه أمرًا.
(4)
جادت عليه الذكريات بأسوأ ما فيها، وعي يتفتح على وخز بالكلمات والنظرات. إشارات قاسية تشي بغرابة هيئته ودمامة وجهه، وضعف تقديره للأشياء، وجلوسه صامتًا بلا حراك أو استجابة أمام ثرثرة البشر وهدير الحياة. إيذاء تفسي وبدني وأفواه ساخرة تطفج بضحكات مقززة على آلامه في سجنٍ لعينٍ يسمونه "مدرسة".
عاش في كنف الفقر لأبوين يدبران المكائد لحياة كانت أكثر منهما مكرًا ودهاءً، فجعلتهم يعيشون على أمل لم يلمسوه أبدًا. وحده الفقر يخرج أسوأ ما فينا، يهبط بنا لمرتبة أدنى مما تهبط به الغريزة كما أوهمنا المترفون. أنشأنا المدن والسلطة والدولة والبرلمان والعلم والنشيد والجيش والثورة والديموقراطية، غزونا الفضاء وهتكنا ستر الذرة، وبقي الفقر فينا علمًا على عجزنا المطلق عن تحقيق أدنى مراتب إنسانية الإنسان.  
وجد نفسه في زمن أعلنت فيه الطبيعة أنه وأشباهه نتوء زائد، ورم يجب إزالته، إثباتٌ عمليٌ لنظرية عالم جغرافيا وَصموه بالشر لمجرد أنه قال إن ازدياد البشر مع ثبات الموارد سيجعل المجتمعات تلفظ الضعفاء، تتقيؤهم في الصراعات والحروب والمجاعات والكوارث ونوبات الفقر الجنونية الجامحة. سيأكل البشر بعضهم بعضًا في صراع لن يُبقى على موائد الأحلام الشحيحة إلا الأقوياء.
 (5)
عزم على الذهاب، استغرقه التفكير فيه وفي تباعته، لم تغب عنه ذكرى ما جرى يومًا. فتش في ذاكرته، جاءته الذكريات بتتابع منطقي. ألح عليه ما جرى له قبل أن يقابلها بأشهر قليلة، فقبل أن يراها مرَّ بتجربةٍ غريبةٍ بدت كما لو كانت تهيؤه لما سيقع له فيما بعد.
 كان في آواسط مراهقته، السن التي تقف بنا على عتبات كل شئ في لحظة واحدة؛ أجسادنا، أرواحنا، الكون المحيط بنا، العلة والسبب والغاية، العقل والجنون، التهور والجبن، الزهد والطموح، الاندهاش والسؤال، الحيرة واليقين، فقدان الذات والبحث عنها، العشق والانكسار.. كل شئ، كل شئ دفعة واحدة في لحظة لا رحمة فيها.    
بدأ الأمر بمسٍ من القراءة، ابتلعته الكتب، تقلب في حيرته، غاص في روحه، تعبد في محراب الصمت، استعمل كل أشكال القياس العقلي، صار البحث عن اليقين شغله الشاغل. تمرغ في خيال الأدباء، جُن بمجادلات الفلاسفة، بحث عن منطق في التاريخ، وبحث في التاريخ عن منطق للواقع، تشبث بأي خيط يؤكد له أن ثمة نهاية لكون بدا فاقدًا عن عمد للنهايات.
صار الوجود في عقله مليئًا بالثقوب والبثور والتشوهات والنقائص، فقرٌ هنا، فسادٌ هناك، تسلط وعبودية، شقاء وآلام، عبثية وعدمية وعقلانية، خرافة ومادية وسادية، وثنية وصوفية.. أشياء أكبر من استيعاب بشر. لماذا نحن هنا؟! لماذا نحن في تلك اللحظة؟! لمَ جئنا؟!َ! وإلام سنصير؟!!   
برغم العناء، عاد من رحلته العقلية تلك مختلفًا، عاد بنفسٍ ارتقت في مراقٍ شاهقة، قليل من أُسْرِيَ به إليها، صار شهابًا ثاقبًا أفلت من الجاذبية الأرضية. ثقب أسود لا هم له إلا ابتلاع الجمال. دليل على امتزاج الواقع بالخيال، النقص بالمثال، المادة بالروح.
حين رآها كان لتوه عائدًا من تلك الرحلة العقلية منهكًا، مملوءًا بالحزن غائصًا فيه وفي التأمل لأذنيه، كأنما كانت الأقدار تعده للحظة اللقاء الذي استعاد كل وقائعه ثانية حين وردته تلك الرسالة اللعينة.
(6)
لحظة المواجهة بينهما هى أشد ذكرياته إيلامًا. على عتبات استدعاءها تذكر ما قرأ للعالم والفيلسوف الفرنسي دوركايم الذي بحث في علاقات البشر، فوجد أننا غالبًا ما نعشق أحد القريبين منَّا مكانًا، أحد من نراهم ونسمع أصواتهم. سأل نفسه يومًا؛ تُرى لو كان في جامعة أخرى، أو بلد آخر، أو حتى في زمن آخر، أكان يقع في عشق فتاة أخرى؟!
عاد بالذاكرة لذلك اليوم، ففي الجامعة.. وبعد أنَّ ظل عامين دراسيين منكبًا على الدراسة رآها في السنة الثالثة، تحدث معها حديثًا عابرًا. تكررت اللقاءات والأحاديث العابرة. وجد نفسه يفتعل المواقف ليتحدث معها. ينتظر لقاءها، بل ويخطط له، يعاود التفكير فيها ليل نهار إلى أن قرر أن يبوح لها بما فيه.   
شئ غامض يبعثه الشتاء في قلوب المحبين. يوقظ خلسة أحاسيس الحب والإقبال على الحياة والأمل في نوال الأشياء، في ذاك اليوم الشتوي داهمه شعورٌ آسرٌ بصفاءِ ونقاءِ الوجود الذي صار فجأة بلا شائبة تشوبه، أو اعوجاج يكدر صفوه، كأنما خُلق على ما نهوى. حتى الشر والإثم والقبح والألم والشقاء صارت كلها أشياء يمكن التسامح معها.
مصادفة وجد نفسه بقربها. أقامت الجامعة عرضًا غنائيًا انتظرت لتحضره في فناء الكلية المحاط بخضرة ممتدة تتلقى رذاذ المطر، بدأت تتحدث. كان يسمع قولها مختلطًا بدقات قلبه الذي يود لو يفرغ ما فيه على شفتيه. فعل شيئًا لا شعوريًا، لا يدري كيف اقدم عليه.. نطق لها الكلمة من أعماق روحه.
"أحبك".
.................
يمتلك الصمت الكامل أحيانًا صوتًا، دويًا مقبضًا، لاسيما حين يصمت من إن نطق انتقل بنا إلى مملكة السماء.
يرتد إليه الصمت لعينًا. يتضاؤل الأمل تدريجيًا. ابتسامة غامضة منها يغلفها خجل مصطنع، لم تكن ابتسامة فرح أو انتشاء، هو أدرى الناس بانتشاءات المحبين.
كان لابد للموقف أن ينتهي. تخلصت من بعض خجلها غير متقن الصنع وبدأت في الرد ..
"أنت........."
لم ينصت لما قالت بعد، ولا يتذكره، وَصلهُ المعنى، نقلهُ على الفور من سجل الأحياء إلى قائمة أشباه الموتى. أدرك معنى أن تبنى الأشياء في سنوات وتنهار في ثوانٍ.
أيُعقل أنَّ ما يفصل بين الحياة وشبه الموت ثوان معدودة؟!! كلمة تخرج من فم إنسان؟! أهو الموت الرحيم الذي يتحدثون عنه الذي يقع دون أن يفعل أحد لك شيئًا إلا أن يفصل عنك أسلاك الإمداد بأسباب الحياة؟!!
(7)
بعد تلك اللحظة شئ ما سيضيع فيه ومنه، شعر نفسه تنشطر إلى ذرات، كل ذرة منها تشع نورًا، تعلو منتشية راقصة في بهاء وعناد ثم تهوي فجأة فاقدة طاقتها النورانية لتلقى حتفها في قاع سحيق مظلم من نفسه.
في أعقاب تلك المواجهة سار مسافة لا يدري مداها، استرد بعضًا من وعيه، فوجد نفسه وسط المدينة بعيدًا عن الجامعة.
لسبب يجهله قرر أن يسكب نفسه وسط الجموع، ذاب كقطرة في سائل الزحام؛ افتعل حديثًا مع المارة، تأمل واجهات المحال، شاغب مع الباعة، فاوضهم في سعر أشياء لا يحتاجها، ضحك على نكات كهول القهوة، شاركهم لعب الطاولة، اكتشف لأول مرة أن أجمل ما في مدن مصر هؤلاء البشر الذين يمازحونك ليعاونوك، دونما اتفاق، على حمايتك من الأحزان.
يومها انبثق في رأسه سؤالٌ لم يبارح عقله: لمَ زُرِع فينا الاشتياق والتعلق ما دمنا لن ننال؟! وعلى أي نحو ووفق أي قانون ينال من ينال؟! ولمَ خُلقنا ضعفاء على هذا النحو، أضعف من أن نتحمل فقد الأشياء بعد التعلق بها؟!.
(8)
مرت بعد تلك الواقعة أيامٌ لا يعلمها. حاول أن ينسى، انشغل بدراسته، بعدها انكب على العمل لساعات طويلة يقتل فيها الإرهاق الإحساس بأي شئ. وضع نصب عينيه أن يكنز المال، شغل عقله بإدارة مدخراته الهزيلة، تابع فريقه الكروي، فضائح المشاهير، أفلام الزمن الجميل، ارتمى في السياسة وانشغل بأخبارها رغم علمه بكذبها. إلا أنه لم يتمكن من النسيان، فقد كان عشقه كالميلاد والموت لا يحدثان إلا لمرة واحدة، ولا يفر منهما أحد!.
وفي فترة التناسي والهذيان تحاشى أن يطرق باب أي من كتبه يستصرخه أو يستنجد به كما كان يفعل في كل ملمة تلم به. داخله شعور بأن كل الحروف التي ابتعلها لم تجده نفعًا، موقنًا أن عجزه لن تداويه الكتب مهما قالت، فالواقع أشد وطأة وقسوة من الحروف.
بدا أمام نفسه مثل دونكيشوت بطل رواية سيرفانتس الذي قرأ وقرأ سير الأبطال، ولكثرة ما قرأ صدق أنه واحد منهم، فارتدى درعًا من ورق، واستل سيفًا من خشب، وركب حصانا أعرج، وراح يتخيل طواحين الهواء فرسانًا يحاربهم كي يقيم العدل في الأرض.  
(9)
برغم كل شئ تمر الأيام. تفقد الأحزان أوزانها الذرية. سار على قضبان الأيام ذهابا وجيئة حاملا حزنه العالق في سقف الروح. تزوج، أو "تزاوج" كسائر الكائنات الحية! كيف؟َ! ومتى؟! وممن؟! الإجابة جسد راقد بجانبه تفصله عنه في الطباع والتفكير والطموح والفعل ما بين المشرقين.
دهشة الزوجة لم تكن أقل من دهشته، غير أن كلاً منهما كان يداري ما بداخله، ويرسل رسائل النفور والاغتراب مشفرة على الوجه والجسد قبل الكلام.
بكاء ونحيب وسخط وتعال، مغالاة في المطالب، شكوى دائمة من كل شئ ومن اللاشئ، لم يذق من الزواج طعمًا للجسد، أومذاقًا الروح.
شئ منه تحرك في أحشائها، شعور الزوجة باحتمالات تأبيد العلاقة بينهما زادها سخطًا وبكاءً ونفورًا. جاء الحل منها حين أصدرت قرارًا بترقيته من معذبٍ إلى أبله، فقد صارحته بأنها كانت تهوى قبل الزواج منه إنسانًا لا يكترث بها، وأنها لم تعد تحتمل العيش معه وتريد الانفصال.
طلقها وتركت له الفتاة. علم أنها ذهبت لمن عشقت ضارعة، جاثية على أطراف مشاعرها وقبل أن يتزوجها. حذروها من أن زواجها منه سيعيد الطفلة إلى طليقها. حاولت مساومته، رجاها أن تترك له الشئ الوحيد بحياته الذي لم يلوثه بشر. لم تقاومه أعطته الفتاة، وسافرت مع زوجها، ولم يسمع بخبرٍ عنها بعد ذلك.
(10)
بصعوبة سكب سائل الذكريات من رأسه، استعاد رهبة اللحظة الحاضرة، رهبة اللقاء المرتقب. على صفحة المجموعة وجد أنها أكدت حضورها. عزم على النزال بشجاعة، سيصوب لها النظرات في تحد، سيثأر لكرامة أهدرت وأيام انسابت من بين أصابعه. سيثأر لانْزِواء في ركن مظلم من نفسه ملفوفًا بمشاعر الدونية، وقلة القيمة والقامة منذ رفضته.
وصل إلى مكان الحفل استشف من "ماركات" السيارات التي حاصرت المكان المستويات التي سيقابلها، علامات التأنق المبالغ فيه بادية على الجميع، حلقات صغيرة من صداقات قديمة شاحبة بدأت تتخلق، انضم إلى حلقة منها، لم يضع المساحيق على تجربته. سرعان ما فقد شهيته للكلام، تشغله الثرثرة عن مبتغاه، حلقات الحديث أيضًا بدأت تلفظه إذ لا ذكرى واضحة له مع أحد. تركهم وهو يرثى لهم، فاستعادة الماضي بالكلام لن يعيده. تعجب من شعور الإنسان بالزمن، يفكر بالماضي والمستقبل، وكلاهما لا وجود له.
انفصل عنهم. أجري مسحًا ذريًا للمكان، لم يعثر لها على أثر. هَمَّ أن يغادر. وجد في عدم مقدمها هروبًا مشرفًا من المواجهة.
بحث بعينيه عن أقرب مخرج. تجمد في موضعه. هاهي تدخل من بوابة الحفل. طيف يتحدى النقص في الأشياء. حين رآها انهارت كل قوانين الزمان والمكان والحركة، بل كل فيزياء الكم. ابتلع ريقه ممزوجًا بعصارة روحه، دقات قلبه تكاد تشق قفصه الصدري، يتحول عرقه إلى حالة البخر برغم الشتاء.
أبعد نظره عنها، هى من يجب أن يأتي لمصافحته. لن يُلدغ من قلب مرتين. أدار ظهره، لم يعد يراها، فقط يسمع وقع أقدامها. تساءل ماذا عساه أن يفعل لو واجهته، سددت عينيها في عينيه، مدت يدها لمصافحته؟!!
مرت فترة طويلة. شعر بتجاوزها للموضع الذي يقف فيه، نعم، تجازته دون التفات، يحاول أن يستوعب، أن يمتص الصدمة. استعاد الزمن الطبيعي بعضًا من حضوره، انتبه لشئ لم يلتفت إليه في غمرة التمني، ذلك الرجل الوسيم المتأنق الذي تتأبط ذراعه بقوة!! شعوره أكثر تساميًا من البكاء، وأعلى شرفًا من الحزن وفوق عتبات الألم.
على أطراف مشاعره تسلل خارجًا. سار تحت رذاذ المطر، انتبه ليجد نفسه مستندًا بجسدٍ وأشلاء روح قرب الفجر إلى شجرة على ضفة النهر، يعبث بقدميه بأوراق ذابلة قضت لتوها نحبها، تأمل صفحة الماء، فضاء الكون، تصاريف القدر. راجع بعض أسئلته الفلسفية: لماذا؟ وكيف لنا أن نهيم عشقًا إلى حد الجنون بمن لا يشعر بوجودنا؟! لمَ كُتِبَ علينا العشق، ذاك الدرب من العقاب البشري؟! وعلى أي نحو رسمت خرائطه ومنحنياته وخطوطه الواصلة بين أي نقطتين؟! ما الذي يقارب أو يباعد بيننا؟! يجمعنا ويفرقنا؟! على أي نحو يُقسم العاشقون إلى مراتب وطبقات؟! وفق أي قانون يجري العشق؟! ووفق أي منطق؟! أهو منطق الفلاسفة؟! أم المتدينين؟! أم الأقوياء؟! أم الأثرياء؟! أم من بالضبط؟!
(11)
لم يدر كيف انتقل من الشارع للبيت، وكم استغرق سيرًا في طرقات مدينة لا تنام. عبر مدخل الشقة إلى غرفتها. لم يضئ الأنوار. وقف يتأمل وجه الصغيرة، الشئ الوحيد القادر على إذابه الألم العالق في روحه.
قبلها في جبينها. استفاقت. طوقت عنقه بيديها الصغيرتين، قبلته في وجنته، ابتسمت له فابتسم شطر من دنياه المظلمة الكئيبة.
- أريد أن أخرج
بصوت يغالب الحزن..
- سنخرج معا في الملاهي، سنلف شوارع المدينة، سنرى الفجر والندى يغطي الطرقات، سنجري ونلعب ونأكل ونلهو ونضحك مع الناس، هيا انهضي.. لماذا لا تردين؟!!
لا رد ...
لماذا لا تردين؟!!
لا رد ...
كانت تلك هى الجملة الأخيرة.
(12)
    هذا آخر ما كتبه قبل أن يختفي.
قالها المحقق وهو يَطوي الدفتر الذي كان يقرأ منه، ثم وجه كلامه لي:
    حكى كل شئ، إلا شيئًا واحدًا؛ كيف وأين ذهب؟! لقد وجدنا هذا الدفتر في منزله ونحن نفتش، دوّن ما فيه قبل أن يختفي. تواريخ التدوين تقول ذلك، والتحريات تقول إنك كنت الأقرب إليه، وكان يتردد عليك. فهل ما جاء بهذا الدفتر الذي عثرنا عليه في حجرته صحيح؟
أجبت بأسى:
    نعم، كنت الأقرب إليه.. كان يتردد على عيادتي النفسية، ويحكي لأول مرة في حياته ما جرى له وما يشعر به.
استدرك المحقق..
    ولكنك لم ترد على سؤالي .. هل ما جاء بهذا الدفتر صحيح؟
    بعضه صحيح.. والباقي صحيح من وجهة نظره فقط.
    ماذا تعني؟!
    أعنى أنه حين جاءني كان يكذب على نفسه، كان يعاني من هلاوس سمعية وبصرية. صدمته في الحياة والحب جعلته يتخيل أشياءً لا وجود لها، يتخيل أن الصوت الباطني المنبعث بالأفكار والمشاعر من اعماقه ليس صوته، بل أصوات تكلمه وتناجيه، والأخطر أنه كان يتخيل أن ما يتمنى في أعماقه قد تحقق، كل ذلك ببساطة لإنه لم يكن يصدق أن ابنته الوحيدة قد ماتت، وأنه هو من تسبب بمقتلها.
    كيف؟!!
    كان يتخيل أنه تسلم رسالة تدعوه لحفل سيجمعه بالفتاة التي أحبها، وأنه ذهب لذلك الحفل، ولم يستطع التحدث إليها، وعاد للبيت حزينًا، وكانت تنتظره طفلته الصغيرة من طليقته التي تركته وتزوجت غيره وسافرت. وبعد أن تخيل ذلك خرج بالطفلة إلى مكان ما، ولا أدري إن كان صدفة أم خطط لذلك، لمح الفتاة التي كان يعشقها بجنون تسير مع زوجها، فما كان منه إلا أن جذبها من يدها بشكل هيستيري. استشاط زوجها غضبًا، وتشاجر معه، وأخذ يضربه ويركله وسط صراخ الصغيرة، ولما وجد الزوج أنَّ الضرب والركل لم يجديا معه وانه مازال متشبثًا بيد زوجته بجنون أخرج الرجل مسدسه وعاجله بطلقة أخطأت طريقها واستقرت في قلب الصغيرة، وسرعان ما أسلمت الروح، صمتت تماما وصمت معها كل شئ، وصار هو إلى تيه وهذيان لم يجد معه علاج، حتى اختفى ولم يعثر له أحد على أثر.
واصلت كلامي وسط ذهول المحقق
    لم اتعامل مع الأمر كطبيب نفسي، خاصة أني علمت أن أحدًا لم يفكر في البحث عنه لعزلته، فأخذت أبحث عنه في كل مكان منذ إختفى. فهل وجدتموه؟
    وجدناه.. ولكننا وجدناه جثة، ووجدنا معه هذه الأوراق.
    كان يحلم بكتابة رواية.. هاهو كتب قصته في شكل رواية مليئة بأسئلته ومشاعره.
سألوني كثيرا كثيرًا بعد ذلك؛ أهو انتحار جراء يأس؟ أم قتله أحد بعد تلك الواقعة؟ أجبت بما أتوقع. لم يكن يهم عندي قتل أم انتحار، المهم أنه مات بجسده بعد أن كان ميتًا بالروح. الموت هو الشئ الوحيد الذي اشتاق إليه وناله.
صرحوا بدفن الجثمان. كنت الوحيد الذي نزل معه القبر ممن يعرفوه، أزحت الكفن من فوق وجهه. كان وجهه ساكنًا متجمدًا مستريحًا. أيكون قد وجد أخيرًا إجابة على أسئلته؟! أم أنه اجتمع اخيرًا بمن أحب؟!!  
المنامة – البحرين
28/3/2019

 

تعليق عبر الفيس بوك