لقاء أثرياء كل محافظة عمانية

 

د. عبدالله باحجاج

ربما علينا رفع الوعي العام باستحقاقات وطنية حتمية، درجة الاهتمام بها متدنية، رغم أنها ينبغي أن تدخل من ضمن التحولات الكبرى في بلادنا متزامنة معها، وكذلك مع انتقال الدولة من دور الرعاية إلى دور الجباية، وهذا التحوّل الاستراتيجي الأخير، رغم ما عليه الكثير من الملاحظات التحفظية، إلا أنّ الذهاب فيه قدما، يدفع بنا لزامًا إلى الاهتمام بالاستحقاقات المنسية حتى الآن.

من هنا، فإنّ التطور الجديد في دور الدولة في بلادنا، يلزمنا النظر إلى طبيعة الدولة الجديدة من منظور تقسيم قطاعات الدولة إلى ثلاثة قطاعات أساسية في آن واحد، وينبغي أن يغلب عليها التكاملية المتوازنة، والا فإنّ الاختلالات ستكون بنيوية، أي في بنية هذه القطاعات، وعلى وجه الخصوص في بنية المجتمع، وخطيرة جدا، مما يفتح لنا الأفق بعيدا وعميقا حول مستقبل المجتمع الذي أسسته الدولة إبّان دورها الرعائي.

وهذه القطاعات الثلاثة هي القطاع الحكومي والقطاع الخاص والقطاع الأهلي "المدني"، وهذا الأخير يفرض نفسه الآن أكثر من أي وقت مضى، فالدور الجبائي للدولة ستتضرر منه شرائح اجتماعية كبيرة، وهذا ما يحدث منذ عام 2014 وحتى الآن، وسيزداد الضرر مع تصاعد الأعداد في ضوء استمرارية قضايا عديدة كقضيّة الباحثين عن عمل وتراكماتها السنوية وتقاعد الموظفين على مرتبات تقاعد ضعيفة.. وحتى لو انفرجت مثل هذه القضايا، ستظل القضيّة قائمة بحدية مختلفة، لأنّ الدور الجبائي الجديد للدولة، قائم على فرض ضرائب ورسوم ورفع مجانية الخدمات عن المجتمع، وبالتالي، فإنّ المرتبات ستظهر عاجزة عن الوفاء بنفس الاستمرارية في تلبية الحاجيات الأساسية، فالتحول في دور الدولة سيترتب عليه بروز ظاهرة التفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء، كما ستتسع الهوية الأكثرية من محدودي المرتبات والقلة القليلة التي تمتلك الثروات.

لكي نكون صرحاء مع هذه المرحلة، علينا القول إنّ الانتقال التاريخي في دور الدولة، لن يتناغم مع طبيعة المجتمع العماني "ظروفيًا وسيكولوجيًا"، ومن ثم لابد من إعادة النظر فيه، ليس عبر الرجوع إلى الدور الرعائي وإنّما من خلال إيجاد وسطية متناغمة ومنسجمة بين الدورين، فلا المجتمع يستغني عن رعاية الدولة، ولا الدولة من مصلحتها التخلي عن المجتمع، وجعل غيرها يتحكم فيه، لذلك سيكون المجتمع دائمًا يحتاج للمزيد من الرعاية وليس المزيد من الضرائب والرسوم.

خاصة وأنّ مجتمعنا مكون ديموغرافي يختلف شكلا وجوهرا عن المكونات الديموغرافية الرأسمالية بشرقها وغربها، وحتى عن المكونات الديموغرافية التي تشترك معنا في الكثير من الخصائص مثل الدين واللغة والأبعاد الاجتماعية الأخرى، لذلك نميل الى الثنائية المتناغمة بين الدورين لدواعي صناعة مجتمعٍ فعّال في ذاته وتفاعلا مع عصره الجديد، لكن مع الحفاظ على ولاءاته الأفقية وانتماءاته الرأسية- سنتناوله في مقال مقبل.

وحتى لو تبنينا الثنائية المزدوجة، فإنّ الحديث عن دور القطاع الأهلي/ المدني، الشريك القطاعي الثالث الحتمي لمرحلة التحولات، ودوره غائب الآن على المستوى المؤسساتي، سيظل ملازما لمثل هذا التحولات، صحيح هناك مبادرات فردية، وقد يتقاطع البعض معها أو ينفرد ببعضها، لكنّها – قلة – ورغم ذلك قد تمكنوا من تحريك مياهنا الراكدة.

الأهميّة الوطنية في تحولاتها التاريخية، تحتم تفعيل دور القطاع الأهلي/ المدني لدواعي الشراكة لسد الثغرات البنيوية الناجمة عن التحول في دور الدولة، لكنه يبدو أنّه يواجه عدة عراقيل بيروقراطية وسيكولوجية، بدليل المدة الطويلة التي ننتظر فيها قانون الجمعيات الجديد، وهذه مفارقة تصطدم مع توجهات الدولة وتحولاتها سالفة الذكر، فاهم شروط نجاحها ان يكون القطاع الثالث "الأهلي/ المدني" فاعلا ومنتجا في مرحلة التحولات، وغيابه سيكون المجتمع أكبر المتضررين من التحولات.

وهنا نكشف مصير مجهول المنحنيات، ومعلوم المآلات، وأقل ما نقول عنه، أنّه منسي أو متناسي، إذ لا يمكن أن يغيب عن الوعي السياسي أو السياسة الداخلية في بلادنا، ونشدد هنا على ضرورة أن يكون تحول البلاد الاستراتيجي شاملا وليس انتقائيا، إذا ما أردنا نجاح غايات التحولات، وهي تحضير بلادنا لمرحلة ما بعد النفط مع الحفاظ على الاستقرار أثناء مرحلة التحولات.

ولا يمكننا التوقع قريبا الاستدراك الرسمي لهذا المسار العاجل، لذلك نراهن على المبادرات المجتمعية، لكن ليس أية مبادرات، أنها لن تكون إلا في مستوى عقد "قمة" لأثرياء كل محافظة من محافظات البلاد ورؤساء الشركات الكبرى فيها لتأسيس صندوق للتعاضد المجتمعي، يدار بمهنية وتخصصية عالية المستوى، على أن تنشأ لجنة اجتماعية تابعة للمحافظ/ الوالي، وأعضائها من كل الأطراف، فالقانون يسمح بمثل هذه اللجان، وإجراءاتها بسيطة، ويمكن أن ترى النور.

فمن سيأخذ زمام هذه المبادرة؟ للأسف، أغلبية أغنياء كل مجتمع محلي مشغولة بتجميع الأموال والاستحواذ على العقارات.. وهذه مسائل مشروعة.. لن نتحدث عن دور المال العام خاصة وثروات البلاد عامة في الثراء الخاص.. لكن نؤكد هنا على الحق المجتمعي في هذه الثروات، وهو حق ملزم قانونا وأخلاقيا وشرعيا.. شرعا يتجسد في الزكاة، وقانونا يتجسد في مبدأ المسؤولية الاجتماعية، وعوائدها المالية السنوية ضخمة، فمثلا شركتين من كبرى الشركات في ظفار أحدهما تخصص مليون ريال سنويا، والأخرى أربعمائة ألف ريال غير بقيّة الشركات والمؤسسات المالية.. كما أن هناك أموال الزكاة.. ولنتصوّر لو أنها تُجمع في صندوق.. وتذهب ضمن رؤية مجتمعية ذات تكامل وتناغم وتنسيق مع توجهات البلاد، وفكرة الصندوق قد تناولناها في مقال سابق، لكننا نطرحها هنا في سياقاتها الوطنية الجديدة.

ولنا في تجربة العمارة الوقفية التي تبنيها جمعية بهجة للأيتام أفضل رؤية لدور القطاع الأهلي/ المدني في مرحلة الجبايات، فهى تؤسس دخلا مستداما للأيتام وأسرهم، يحصن حاجة هذه الفئة الاجتماعية، ويجعلها بمنأى عن تقلبات الظروف والمراحل، من هنا نرى أن تجميع الأموال من الأفراد والجماعات والمؤسسات تحت رقابة الدولة في صندوق تعاضدي سيسهم مع الشريكين القطاعين الحكومي والخاص في التنمية الوطنية الشاملة.

مما تصبح القضية الآن في ضوء تجارب جمعية بهجة للأيتام وفريق الأيادي البيضاء في ظفار مثلا، تكمن في كيفية توظيف كافة الإمكانيات والطاقات داخل كل محافظة من محافظات البلاد.. ولو فتحنا هذا المسار، سنذهل بما يتميز به كل مجتمع محلي داخل نطاقه الترابي، مما يفتح لاحقا وسائل التنسيق والتكامل بينهم، ومرحلتنا الوطنية مواتية الآن لمثل هذه النقلة التاريخية الحتمية التي يمكن الرهان عليها كذلك بتطور وتحديث المجتمع، وزيادة فعاليته الفردية والجماعية، والتخلص من الأنانية بمستواها الثنائي والجماعي.

لكن هذا المرحلة، تبحث عن شخصيات اقتصادية مؤثرة وواعية وذات صدقية اجتماعية عامة، تقود المسيرة نحو المآلات المحددة سلفا، وقد أمعنا الفكر بحثا داخل مجتمعنا المحلي، واكتشفنا في المسير شخصيات تنطبق عليها شروط المعيارية.. لكن عليها أن ترفع رأسها عاليا لرؤية المشهد كما يجب في عمومه، لا كما ينبغي في خصوصيته الضيقة، والرؤية الآن واضحة، وهي أنّ التغييرات الداخلية وتحولاتها التي حدثت منذ أكثر من أربع سنوات تنتج فرصا ممكنة لتأسيس القطاع الثالث "القطاع الأهلي/ المدني" فعالا وفاعلا، ودونه لا يمكن للتحولات الكبرى أن تعزز الاستقرار في البلاد، بل العكس ستمسه في العمق، فالمجتمع سيظل محتاجا إلى المزيد من الرعاية وليس المزيد من الضرائب والرسوم.. والقطاع الثالث يمكن أن يسهم بشكل كبير في التخفيف من حدة الضرر المجتمعي، ودونه، ماذا ستكون التداعيات؟ الإجابة سنتركها للوعي السياسي على ضوء ما تناولته في المقال.