عبيدلي العبيدلي
في البدء، وتمسكا بالموضوعية المطلوبة لمعالجة قضية معقدة ومتشابكة من مستوى الصراع العربي – الإسرائيلي، في الإطار العام، أو الفلسطيني – الإسرائيلي في النطاق الأضيق، لا بد من الاعتراف أن الطرف الصهيوني، ومنذ اغتصابه للحق الفلسطيني يملك بين يديه مجموعة من الأوراق القوية التي استخدمها ببراعة لا متناهية من أجل قلب موازين قوى الصراع لصالحه أولا، والاحتفاظ بالتفوق على الطرف العربي ثانيا. وقد حقق ذلك من خلال السياسات التالية:
- على المستوى السياسي، ومنذ بداياتها الأولى المبكرة في أواخر التاسع عشر، وسط التجمعات اليهودية، حرصت طلائع الحركة الصهيونية على بناء علاقات استراتيجية وثيقة مع الدول العظمى، في كل مرحلة من مراحل تغير موازين القوى على الساحة الدولية، الأمر الذي وضع بتصرفها قدرة فائقة على ربط مصالح الحركة الصهيونية، بشكل وثيق مع مصالح الحركة الاستعمارية، بمختلف قواها الباحثة عن مناطق للسيطرة من أجل نهب خيرات مناطق نفوذها أولا، واستخدامها كمواقع متقدمة لخدمة استراتيجيتها الكونية ثانيا. هذا وفر للحركة الصهيونية عناصر قوة إضافية، فاقت تلك التي كانت بحوزتها بشكل مباشر. هذا ما جسّده، ولمسناه في تحالفاتها مع الدول الأوروبية أولا، بما فيها تلك التي انضوت تحت مظلة الكتلة السوفياتية، ثم تحولها نحو الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الكونية الثانية، التي أبرزت نتاجها واشنطن كأحد أقوى اللاعبين في ساحة الصراعات الدولية، والتنافس على مناطق النفوذ.
- على المستوى العسكري، أولت الحركة الصهيونية بناء مؤسستها العسكرية اهتماما متزايدا حتى في المراحل التي سبقت، تأسيس الكيان الصهيوني. وشكلت "الهاغانا" نواة الجيش الإسرائيلي المبكرة، التي مارست دور الذراع العسكري الذي سارع في عملية بناء الكيان الصهيوني، بعد تشريد سكان فلسطين. وتربى في كنف هذه المؤسسة الإرهابية قادة الكيان الصهيوني الذين ارتكبوا لاحقا جرائم شنعاء تجاه الشعب الفلسطيني، ومؤسسات الثورة الفلسطينية، لم تتوقف حتى يومنا هذا، بل اتسع نطاقها كي تشمل تجمعات الشعب الفلسطيني في الشتات. ومجازر مخيمي صبرا وشتيلا في العام 1982 لا تزال لم تمح من الذاكرة. مكن هذا التفوق العسكري دولة العدو من فرض الكثير من "الحقائق المزورة" على أرض واقع الصراع، مدت العدو الصهيوني بما يحتاجه من القدرة على ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية في السنوات الأولى من قيامه، وأوسع منها من الأراضي العربية في الحروب التي شنها ضد البلدان العربية، ولم تتوقف منذ العام 1948.
- على المستوى الاقتصادي، استفادت الحركة الصهيونية من الثروات المكدسة بحوزة بيوت المال اليهودية، ونجحت في استخدمتها، خاصة في الحربين العالمتين الأولى والثانية في تمويل نفسها من جانب، وكسب تحالفات دولية جيرتها لقلب موازين قوى الصراع العربي – الإسرائيلي لصالحها من جانب آخر. وواصلت ذلك بعد قيام الكيان الصهيوني فسخرت تلك الأموال في نسج علاقات اقتصادية مع الاقتصادات العالمية الكبرى، وفي مقدمتها الاقتصاد الأمريكي. وجيّرت كل ذلك لتمويل مشروعات ترسيخ أركان الكيان، والدفاع عنه.
هذه الحقائق رغم ما تتركه من ألم في نفوس صناع القرار العرب، ومعهم الشعوب العربية، لكنها، يمكن أن تشكل تحديا تاريخيا يمارس دور الرافعة التاريخية التي تقلب موازين القوى لصالح الطرف العربي من خلال خطوات مدروسة، تنطلق من برنامج مواجهة متكامل، يرتكز على القوائم التالية:
- قناعة راسخة بأنّ طبيعة مكونات الصراع العربي – الإسرائيلي تفرض على جميع الأطراف الضالعة فيه الاستعداد لحرب طويلة الأمد، لا يمكن للطرف العربي أن يحقق خلالها انتصارات كبيرة، بل على العكس من ذلك ستكون في غاية الصغر، وربما غير ملموسة، لكنها قابلة للنمو والتوسع تحيّنا للحظة التاريخية التي تتحقق فيها نقطة انقلاب الموازين للطرف العربي.
- تجاوز الاستراتيجية التي تحاول حصر الصراع في إطاره العسكري المحض، والاستعداد لحرب متعددة النواحي، تشمل الجوانب الأخرى المختلفة، وفي مقدمتها الحروب التجارية والاقتصادية. مثل هذه الحروب ليست خارجية فحسب، بل لا بد، إن أريد لها النجاح والتأثير، أن تنطلق من داخل رحم الكيان الصهيوني، على أن يشكل فلسطينيو 1948 رأس الحربة في مثل هذه المعارك الاقتصادية التي سيخوضها الطرف العربي ضد المؤسسة الاقتصادية الصهيونية، فيشكلون ما يشبه حصان طروادة العربي الذي يفاجئ الحركة الصهيونية في اللحظة المناسبة.
- وحدة الصف العربي، وفي القلب منه الشعب الفلسطيني، ليس في إطر شكلية، منخورة من الداخل، ولكن في هياكل استراتيجية قادرة على صهر عناصر القوة العربية بشكل مبدع، تضمن قلب توازن القوى في المراحل المبكرة، على نحو بطيء، لكن متواصل، تحينا لانقلابها لصالح الطرف العربي، على نطاق واسع في مراحل لاحقة. والخطوة الأولى على هذا الطريق، وقف النزيف التمزيقي العربي الذي لم يتوقف، منذ قيام الكيان الصهيوني، وما يزال مستمرا حتى يومنا هذا. وتاريخ الصراع كفيل بإثبات أن الكثير من المعارك التي كسبها العدو الصهيوني، كان مصدرها تشرذم الطرف العربي في الصراع. والعكس صحيح، ففي المحطات النادرة التي توحد فيها الصف العربي، كانت هي التي تجرع فيها العدو الصهيوني مرارة الهزيمة. والمراحل الأولى من حرب 1973، شاهد قوي على صحة هذا القول.
- الالتفات نحو الجبهات الإقليمية والدولية، ودراسة مصالحها المباشرة وغير المباشرة في دوائر الصراع المتشابكة، قبل القفز لاستقراء مواقفها من الصراع. ووضع خطة استراتيجية لكسبها لصالح الطرف العربي، أو تحييدها في أسوأ الأحوال. مثل هذه الالتفاتة، يجب أن تتجاوز الصراعات الثانوية الآنية، وتنظر من زاوية الصراع الأكثر اتساعا، والأخطر استراتيجية. وفي التجربة الفيتنامية دروسا كثيرا في هذا المجال يمكن الاستفادة منها، متى ما توفرت النية الصادقة لبدء حروب الصراع العربي – الإسرائيلي من منطلقات مختلفة، تحمل في ثناياها مقومات النصر، حتى ولو على جرعات صغيرة ومحدودة في المراحل المبكرة.
مثل هذه التوجهات، بمكن أن تملأ أرفف الصراع العربي الصهيوني، بكتب كثيرة، لكنها ستحكي، بدلا من انتصارات ذلك الكيان، عن بطولات، ومن ثم انتصارات الطرف العربي، إلى ان تحين اللحظة التاريخية التي تعود الأمور إلى نصابها، ويرجع الفلسطينيون إلى ديارهم. ويعيش الجميع، بمن فيهم اليهود، في كنف فلسطين التي عرفها الجميع قبل نكبة 1948.