"معركة حق العودة".. لإينات ويلف وعدي شوارتز

أميرة سامي*

لقد نشأ حق العودة في خضم المعركة، وحتى اليوم يتم الجدال حول نطاقه وظروف نشأته، ودائما على قائمة القضايا الأساسية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولكن لا يكاد أي شخص يتعامل مع هذا الموضوع، لأنه أكثر تعقيدا من مشكلة المستوطنات، ويميل مجتمع صنع السلام إلى تجاهله لسبب ما.

وفي كتاب "معركة حق العودة" يحكي عدي شوارتز وإينات ويلف القصة الكاملة لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وهي إحدى القضايا المركزية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي التي غابت تقريبا عن الوعي الإسرائيلي والعالمي. ويعد هذا هو الكتاب الأول من نوعه الذي يحلل مشكلة اللاجئين منذ بداياتها وحتى الوقت الحاضر، ويقدم رواية شاملة عن كيفية نشأة الطلب الفلسطيني للعودة، وكيف تم تغذيته من قبل المجتمع الدولي، والدور المركزي الذي لعبته إسرائيل في استمرار هذه المعركة. وفي فترة البحث عن التفكير السياسي الجديد حول الصراع وطرق حلها، يفتح المؤلفون نافذة على أكبر وأعمق حاجز أو عقبة أمام أي تسوية، وطالما استمرت معركة حق العودة، لن يكون هناك سلام. وقد تم مناقشة بعض النزاعات بالتفصيل؛ مثل: الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وتم كتابة آلاف الكتب والمقالات، وقد ألقيت خطابات ومناقشات لا نهاية لها في مجلس الأمن. ظاهريًّا، تمت مناقشة كل تفاصيل الصراع ليس فقط في البرلمانات والاجتماعات بين القادة، ولكن أيضا على شاشات التليفزيون وفي الصحف، إذن، ما الذي يمكننا تجديده؟

 

إن إحدى القضايا الرئيسية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي تكاد تكون غائبة تماماً عن الوعي الإسرائيلي والدولي؛ وهى مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ولا يحظى المطلب العربي لتحقيق "حق العودة" باهتمام كبير من جانب القيادة السياسية الإسرائيلية، أو الجمهور الإسرائيلي وبقية العالم، بينما تتدفق الكلمات من جميع الاتجاهات على المستوطنات والاحتلال العسكري للأراضي، ومن الصعب للغاية العثور على مناقشات إستراتيجية حول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، أو حتى محاولة حل المشكلة، أو على الأقل رفع هذه المشكلة للمناقشة؛ وعلى الرغم من أنه يتم ذكرها دائما باعتبارها واحدة من القضايا التي يتعين حلها في المفاوضات، إلا أنها ببساطة بعيدة عن الأنظار.

إنَّ مشكلة اللاجئين ليست مجرد مشكلة من مشاكل الصراع، مثل مشكلة الحدود أو مشكلة الترتيبات الأمنية. إنها ليست مسألة تقنية، ولكنها إستراتيجية تعكس نظرة الفلسطينيين العميقة للصراع وعلاقاتهم مع اليهود والصهيونية. كما أنها ليست مشكلة تكتيكية يجب حلها، وإنما شهادة على الموقف التاريخي للفلسطينيين فيما يتعلق بعدم شرعية المشروع الصهيوني، الذي سعى ونجح في إرساء سيادة يهودية في أرض إسرائيل. وفي نظر الفلسطينيين فإن وجود اللاجئين والظلم الصهيوني مرادفان.

مشكلة اللاجئين على مدى سبعة عقود تعكس السرد الفلسطيني الأعمق، والذي بموجبه تم تجريد أهلها من أراضيهم من قبل المستعمرين الأجانب دون وجه حق على الأرض. الصراع، وفقا للفلسطينيين، ليس بين مجموعتين لهما حقوق شرعية في الأرض، ولكن بين شعب عادل وآخر (أو حتى أعضاء من دين آخر) لم يأخذ شيئاً خاصاً به. إن إقامة إسرائيل على هذه الأرض، ورحيل مئات الآلاف من العرب من إسرائيل في حرب عام 1948 وجهان لعملة واحدة: ظلم رهيب وغياب عدل يجب تصحيحه. وبالنسبة للفلسطينيين، الحروب في جميع أنحاء العالم ليست مقبولة حتى لو كانت أحداث مؤسفة ولكنها جزء من مؤامرة إمبريالية لا يمكن الاتفاق معها. الحل الوحيد، إذن، هو إعادة "العدالة" إلى حقها: إعادة اللاجئين وإعادة الأراضي إلى أصحابها الشرعيين على حساب إسرائيل. هذا هو معنى "حق العودة"، ويجب فهم ذلك.

مُعظم المشاكل الأخرى في الصراع مع الفلسطينيين (باستثناء القدس) هي مشاكل فنية يمكن حلها بحسن النية. ويُمكن نقل الحدود على بعد كيلومتر واحد إلى الغرب أو الشرق، وتمديد الترتيبات الأمنية عن طريق إنشاء محطة تحذير أخرى؛ هذه قضايا واقعية ويمكن بالتأكيد أن تكون مرنة. لكن مع التطلع الفلسطيني إلى إلغاء الدولة القومية للشعب اليهودي، من المستحيل التوصل إلى حل وسط، ومشكلة اللاجئين والمطالبة العربية بتحقيق "حق العودة" تكشف كيف يرى الفلسطينيون الصراع معنا بالفعل وماذا يفكرون بنا ووجودنا هنا، لأنهم يهتمون بظاهرة أعمق، عدم الاستعداد لقبول الحقوق المشروعة لليهود، حتى في جزء من أرض إسرائيل. لذا، فإن أي مناقشة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني دون اهتمام كبير بمشكلة اللاجئين أمر مثير للسخرية، وهى نموذج لمحاولة تغطية بقع مرض شخص يحتضر بالمكياج   أو لتغطية مبنى بأساساته المهتزة تماما.

ومع ذلك، هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور، على سبيل المثال في ديسمبر 2016 ألقى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري خطابا مطولا حول موقف بلاده من الصراع. وفي ظاهر الأمر، كان من المفترض أن يفهم كيري الصراع، خاصة بعد الساعات المطولة التي قضاها مع قادة الشرق الأوسط والماراثون والمسيرات المحرومة من النوم. ومع ذلك، ظهرت كلمة "المستوطنات" في خطابه فيما لا يقل عن 58 مرة، بينما ظهرت كلمة "لاجئين" ثلاث مرات فقط. وعلى النقيض من النشاط الاستيطاني المكثف كخطر يهدد السلام، رفض كيري مشكلة اللاجئين في فقرتين قصيرتين وغير ملزمتين، في خطاب طويل دام أكثر من ساعة.

القادة الإسرائيليون، من حزبي اليسار واليمين، ليسوا مختلفين كثيراً. ولكن يميل أعضاء حزب اليسار إلى مهاجمة الحكومة اليمينية لرفضها، لكنهم لا يشرحون كيف سيتم حل مشكلة اللاجئين، بينما يتجاهل أعضاء حزب اليمين المشكلة كما لو أنها ليست كذلك. منذ حرب الأيام الستة، كان النقاش الدائر في إسرائيل مصحوبًا بنقاش داخلي حول مسألة "نعم أو لا لإعادة الأراضي". يدعي اليسار أنه من أجل تحقيق السلام، يجب التنازل عن الأراضي، بينما يدعي اليمين أنه ممنوع من القيام بذلك. وهذه المناوشات التي طال أمدها أظهرت مشكلة اللاجئين والمطالب العربية لتحقيق "حق العودة". وهذا ما يحاول الكتاب أن يوضحه.

إن نتيجة هذا التجاهل لمشكلة اللاجئين ليست عدم الاعتراف بأحد الجوانب المركزية للنزاع، ولكن هذا التجاهل منع الفهم الحقيقي لطبيعة النزاع، وبدون فهم مشكلة اللاجئين أو بالأحرى، عدم فهم مشكلة اللاجئين ما هو إلا استمرار للمشكلة، فنحن نمشي بشكل أعمى،وممنوعون من إدراك أن النزاع لا يتعلق بحدود أو أراض يمكن تقاسمها، وإنما حول وجود دولة يهودية ذات سيادة داخل حدود أرض إسرائيل.وأن تجاهل مشكلة اللاجئين لمجرد أنه يكشف أبعاد الرفض العربي، وبالتالي قد يلعب في أيدي منافسين سياسيين، أو لأنه يسقط الأرض تحت معتقدات سياسية قديمة هو فعل من اللا مسؤولية.

ويذكر عدي شوارتز "في العقد الماضي، كنت أبحث في الصراع العربي الإسرائيلي وأكتبه وألقي المحاضرات عليه. وخلال هذه الدراسة، لاحظت أن مشكلة اللاجئين و"حق العودة" هي على أساس الروح الفلسطينية، بينما من ناحية أخرى هم غائبون عن الخطاب الإسرائيلي حول النزاع. هذا الغياب له العديد من المعاني: الأول هو التشوه الكلي للعلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، وحقيقة أن هؤلاء هم الذين لا يعترفون بحق اليهود في دولة خاصة بهم. وأولئك الذين يتابعون الصراع عادةً ما يحصلون على الانطباع بأن المشكلة هي أن اليهود لا يوافقون على أن الفلسطينيين سيكون لهم دولة، وإذا ما وافقوا، فسيتم حل النزاع. لكن المشكلة عكس ذلك: أولئك الذين يطالبون بعودة جماعية للاجئين وذريتهم ليسوا على استعداد لأن يكون لليهود دولتهم الخاصة.

إنَّ تجاهل مشكلة اللاجئين من إسرائيل له ثمن سياسي وصوري معا ونسيان هذه المشكلة يشوه الصورة بالكامل ويرسم صورة زائفة لكل من الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني. إذا كان الجميع يتحدث باستمرار عن المستوطنات والاحتلال، كما يقول المراقب الأوروبي أو الأمريكي، فإن هذه هي المشكلة الأكبر على الأرجح، والإسرائيليون هم المسؤولون. وهكذا فقدت إسرائيل صوتها في الصراع وتم جرها إلى معارك لاحقة للفلسطينيين. بدلاً من دعوة الفلسطينيين في كل مرحلة وبصوت واضح للتخلي عن طموحهم في إعادة ملايين اللاجئين (في الواقع، أحفاد اللاجئين)، يتم جر إسرائيل إلى حجج حول الوحدات السكنية في المناطق أو حول انتهاكات حقوق الإنسان الحقيقية أو المتخيلة. وبدلاً من إظهار الصورة الكبيرة -أن الفلسطينيين لم يقبلوا بعد حق اليهود في دولة خاصة بهم- يتم دفع إسرائيل إلى زاوية في المواجهات حول القضايا الهامشية.

النتيجة الأخرى هي الفشل المستمر في "عملية السلام"، التي تقوم على أسس عدم قول الحقيقة. وليس من قبيل المصادفة أن عملية السلام عالقة منذ سنوات عديدة، طالما أن المفاوضين لا يأخذون بجدية رفض الفلسطينيين الاعتراف بدولة يهودية ذات سيادة، ولا يمكن إحراز أي تقدم. إن المرحلة الأولى في حل المشكلة هي تشخيصها الصحيح، وبالتالي يجب على أي شخص يعتبر نفسه ملتزمًا بتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين أن يتعامل مع هذه المشكلة ويحاول إيجاد حلول لها، ويجب على اليساريين، الذين يتطلعون إلى التوصل إلى حل سلمي قائم على تقسيم الأرض، أن يتعاملوا والفهم بأن العقبة الأكبر في تحقيق هذا الهدف هي رفض الفلسطينيين القيام بذلك.

يرى المؤلفان أن ثمن التجاهل لمشكلة اللاجئين هو انشقاق داخلي عميق في المجتمع الإسرائيلي وشعور بالذنب بأنه كان من الممكن تحقيق السلام لو تصرفنا بشكل مختلف فقط. في حين يتوجب على إسرائيل صياغة سياستها المستقلة الخاصة بها، ويجب عليها أن تفعل ذلك في الوقت الحالي عن طريق الاختيار بين مجموعة من البدائل السيئة، حيث أنها لا تستطيع التوصل إلى اتفاق سلام بغض النظر عما تفعله. كما يمكن أن يساعد رفع مشكلة اللاجئين وفهمها في رأب الصدع الداخلي والتركيز على الحلول الحقيقية التي يمكن تحقيقها.

لجميع هذه الأسباب، قرَّر المؤلفان التحقيق في مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خصوصا في إحياء ذكراها. وكانت النتيجة هذا الكتاب الذي حلل مسار وتطور المشكلة منذ حرب عام 1948، ويصف الطريقة التي أعاقت الجهود الصادقة لإعادة إعمار العرب للمجتمع الدولي في الخمسينيات لإعادة تأهيل الثقافة المدمرة لمخيمات اللاجئين. دور الأونروا في بروز قومية فلسطينية انتقامية وعنيفة ومكان مشكلة اللاجئين في مفاوضات السلام في العقود الأخيرة.

ويحاول الكتاب الإجابة عن الأسئلة الآتية: لماذا لم يتم حل المشكلة حتى الآن؟ وما الذي أخطأت فيه إسرائيل؟ وما يمكنها القيام به بشكل مختلف اليوم؟

من المأمول أن يساعد الكتاب على فهم الصراع بشكل أفضل فعدم الحوار عن هذه المشكلة ما هو إلا استمرار لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

---------------------------------

- الكتاب: "معركة حق العودة".

- المؤلف: إينات ويلف وعدي شوارتز.

- الناشر: طبريا زامورا دفير، 2018م، بالعبرية.

- عدد الصفحات: 468 صفحة.

 

 

* أكاديمية مصرية

تعليق عبر الفيس بوك