الأخبار الكاذبة

حاتم الطائي

قبل دخول الإنترنت لعالم الصحافة والإعلام كان الجميع يتعرَّف على أبرز الأخبار عبر الصُحف المطبوعة في صباح كل يوم أو عبر نشرات الأخبار في الإذاعة أو التليفزيون، وكانت مساحات الأخبار المُضللة أو لنُسمِّها الكاذبة، محدودة للغاية، غير أنَّه مع تطور العمل الإعلامي وتوظيف الإنترنت كوسيلة نشر إلكتروني، ظهرت أنماط مُتعددة للأخبار غير الصادقة، لأهداف لا حصر لها، أقلها زعزعة استقرار الدول وأشدها تزوير إرادة الأُمم!

الأخبار الكاذبة أو المُضللة هي عمليات تضليل مُمنهج تنفذه جهات ومُؤسسات ذات أجندات خاصة ودائمًا ما تستهدف الأنظمة لتضرب استقرارها في العُمق، وتُهدد مصداقيتها أمام شعوبها، وتقوض من هيبة هذه الأنظمة وقُدرتها على التَّصدي للأخطار الخارجية والداخلية أمام الرأي العام. وهذا التضليل والتزييف الواضح في صناعة المحتوى الإخباري، لم يعُد يتم بتلك الطريقةِ الساذجةِ التي كانت تُمارس في بدايات ظهور الإنترنت، كأن تجد موقعاً مغمورًا ينشر خبرًا مُلفقاً عن حادث ما لم يقع في الأساس، من أجل إثارة البلبلة واكتساب شهرة زائفة بين مُستخدمي الإنترنت. فقد تطورت صناعة الأخبار الكاذبة مع تطور استخدام الإنترنت وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى ساحة للتراشق بين جميع المُستخدمين، بالحق أو بالباطل.. الجميع أدمن النهل من هذه المواقع والوقوف عند كل ما يُكتب في منشور أو "تحديث حالة"، وصار المُغرد "إعلامي" وتحول من يكتب على صفحته عبر فيسبوك "ناشط وحقوقي"، وتفاقم المشهد الفوضوي على ساحات التواصل الاجتماعي في أعقاب التغيرات الجيواستراتيجية التي حدثت خلال السنوات العشرالماضية، وما يعرف بـ"الربيع العربي" وظهور تنظيمات إرهابية تستخدم هذه الوسائل كوسائط للتواصل مع المُتعاطفين معها أو المُعتقدين بأفكارها. ضربت الفوضى جذور المنظومات الإعلامية في الكثير من الدول حول العالم، لاسيما في منطقتنا العربية، وباتت جزءًا أصيلاً من الحياة اليومية، فتحوَّل ما يسمى بـ"الترند" إلى مؤشر لقياس الرأي العام ومعرفة ما يُتداول من قضايا في المُجتمعات، وبات "الوسم" أو "الهاشتاج" وسيلة ضغط حقيقية على الحكومات، سواء كانت التفاعلات صادقة أم كاذبة.

هذا يقودنا إلى ضرورة تسليط الضوء على خطورة هذه التطورات، من خلال الاستفادة من الجوانب الإيجابية فيها، وتعزيز جهود القضاء على سلبياتها. وأول ما أريد الإشارة إليه هي الآلية التي يتم بها صناعة المحتوى الكاذب عبر الإنترنت، ومن ثمَّ ينتقل إلى الصحف المطبوعة أو حتى الكُتب والمؤلفات التي يتم طرحها في المكتبات. هذه الآلية تقوم على الأفكار الرئيسة لباول جوزيف جوبلز وزير الدعاية السياسية في عهد الزعيم النازي أدولف هتلر في ألمانيا في النصف الأول من القرن الماضي، عندما اعتمد نظرية "اكذب اكذب حتى يصدقك الناس"، وهي نظرية قائمة في الأساس على الترويج والدعاية للأكاذيب بوسائل منهجية على مراحل، حتى لا يُدرك المتلقي حقيقة الكذب، بل يتماهى مع الحدث الكاذب وقد يصل به الأمر للدفاع عنه إيمانًا منه بصدقيته البالغة والتي لا تقبل الشك مهما كانت.

ثاني الآليات المعتمدة في صناعة الأخبار الكاذبة- وهي بالفعل باتت صناعة تشارك فيها مؤسسات متخصصة- تتمثل في اتخاذ قرارات وإجراءات تدعم تصديق الكذبة، وفبركة وتزييف مقاطع فيديو وإعادة استخدام صور فوتوغرافية لبرهنة الكذبة. أما الضلع الثالث من مثلث الأخبار الكاذبة فيتضح في تكثيف الدعاية الكاذبة عبر تسليط مغردين ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي للترويج للفكرة الكاذبة وزيادة جوانب تضليل الرأي العام، حيث يجد الفرد نفسه محاصرا بين تصريحات لمسؤولين يتعمدون الكذب ومقاطع مصورة توهم المُتلقي بصدق الخبر الكاذب وفي النهاية يجد نشطاء على الإنترنت يدعمون ما سبق.. إنه مُخطط شيطاني خبيث تُديره كبرى الشركات حول العالم، مستفيدة من ذلك في جني أرباح بمليارات الدولارت، وما حدث في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة نموذج مُبسط لمثل هذا النوع من الأخبار، فالمتتبع لتلك القضية التي تقود خيوطها إلى الفضيحة المدوية التي كانت بطلتها شركة كامبريدج أناليتيكا والتي استطاعت أن تحصل بيانات ملايين المستخدمين لموقع فيسبوك وتوظف هذه البيانات لأغراض سياسية، وبهدف دفع الناخبين في الولايات المتحدة إلى مشاهدة أخبار بعينها عن مرشح بعينه، وتقليل تدفق الأخبار عن المرشح المُنافس. هنا نحن أمام نوع أشد خبثاً في التضليل الإعلامي، إنه التضليل القائم على الانتقائية في توزيع الأخبار، والتحيُّز السياسي الفج في عملية النشر، ومن ثم إيقاع المستخدم- أياً كان وفي أي دولة كانت- في فخ الأخبار المضللة، والتي لا تقل ضررًا وفسادا عن الأخبار الكاذبة.

إنَّ صناعة الكذب في الأخبار باتت محور حديث المهتمين بالشأن الإعلامي خلال الفترة الأخيرة، ففي الكثير من المحافل المعنية بمناقشة قضايا الإعلام، تفرض هذه القضية نفسها على المناقشات والحوارات بين المتخصصين، لما لها من تأثير بالغ الخطورة على عملية صناعة الوعي وبناء المعرفة لدى المتلقي، القارئ أو المستمع أو المشاهد، تأثيرات تفوق خطر الحروب المباشرة التي كانت تشنها الجيوش في المراحل السابقة. ولذلك تنامت التحذيرات خلال السنوات القليلة الماضية من خطورة حروب الجيل الخامس، وهي الحروب الدعائية القائمة على الترويج المُضلل للمعلومات، سواء كانت صادقة أم كاذبة، لكن تبقى الغاية إحراز أهداف في مرمى الخصم، وهذا الخصم ربما يكون دولة أو مؤسسة أو شركة أو حتى فرد، الجميع بات مستهدفًا، والجميع موضوع أمام فوهة مدافع الأخبار الكاذبة وتحت قصف المعلومات الكاذب، والدولة أو النظام الذي لن تصيبه دانات الأخبار الكاذبة سيتعرض لشظاياها التي تترك ندوبًا على الجسد الوطني، فمهما كان الوعي المجتمعي مدركاً لخطورة هذه الأخبار الكاذبة، يظل غير مُحصنٍ ما لم يتخذ خطوات حقيقية لدرء هذه المخاطر.

أول هذه الخطوات حتمية سن تشريعات تُعاقب كل من يقوم بصناعة أو ترويج أو نشر معلومات أو أخبار مضللة أو كاذبة أو مفبركة، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، ونحن هنا لا ندعو لمصادرة الرأي أو نُطالب بالتضييق على حريات التعبير، بل إننا في المقام الأول نريد وضع سياج فاصل بين الرأي الذي يحتمل الصواب والخطأ ويمثل وجهة نظر صاحبه، وبين الخبر الذي هو معلومات بحتة لا تتلون بصبغة الرأي أو تندرج في إطار وجهة النظر. ولقد اتخذت دولٌ بالفعل هذه الخطوة وسنت قوانين لمُحاربة الأخبار الكاذبة ومنها دولة سنغافورة التي أعدت قانونا لمواجهة التزييف الإخباري دون المساس بحرية الرأي.

الخطوة التالية تتمثل في تكثيف الحملات التوعوية في المجتمع، للتعريف بمخاطر الانجرار وراء كل ما يُنشر وما يحدث من بلبلة تجلب الضرر على الجميع، وهذه الجهود التوعوية معنية بها مؤسسات الدولة المختلفة المسؤولة عن قطاع الإعلام بشتى وسائله، وأيضاً المؤسسات الإعلامية، والمؤسسات التربوية، وكل من تقع على عاتقه مسؤولية حماية الاستقرار الأمني والاجتماعي في بلادنا.

إنَّ مواجهة مخاطر الأخبار الكاذبة تنطلق من الإيمان بضرورة حماية وصون مقدرات الأوطان وتعزيز دور مؤسسات الدولة في تنظيم شؤونها، وتنوير الأفراد بالمعلومات الصادقة والصحيحة، وقطع الطريق على من تسول له نفسه الانقضاض على ما تحقق من منجزات وتقدم، وبناء جدران من الثقة بين المؤسسات والمواطن عبر انتهاج الشفافية والرد السريع على كل ما يثار من معلومات مغلوطة تهدد الاستقرار، كل ذلك من أجل أن تتواصل مسيرة النماء والخير.