رحم الله أبي

 

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

منذ شهر ونيف وضعت قلمي على الرف حيث كنت أعيش ظروفا عصيبة مع ذاتي؛ فكان الصراع مريرًا كمرارة الحدث، فطوال السنوات الخمس الماضية ظل المحارب الصلب يقاوم عاديات الزمن وآلام المرض الذي ألمّ به، ابتداء من القلب الكبير الذي ظل ينبض بالحب رغم اعتلاله وانتهاء بكل شيء ولم يمنح لحظة ضعف واحدة لمن كانوا حوله؛ وأنا منهم، فعندما يتمالك قواه يمسح عينيه وحاجبه الأيمن بيده ويرمقني بابتسامة غامضة وعند هذه اللحظات السريعة يطلب كوبا من الشاي الأحمر، فيحمد الله ثمّ يعود للألم بصمت مغطياً وجهه كي لا أرى تعابير وجهه عندما يتألم.

لقد حارب الفقر والعوز منذ مطلع القرن الماضي وهاجر إلى العالي وعاد ليخوض معركة أخرى كانت هذه المرة الى جانب جلالة السلطان - حفظه الله- مثل كل الشرفاء والمخلصين في هذا الوطن ووضع في سجله الحياتي عدة نياشين أرفعها إيمانه الراسخ بالله والعمل على طاعته بكل جوارحه، ومع ذلك وجدت نياشين أخرى في السحارة القديمة إنّه قميص ومصر فرقة أبو بكر الصديق وبعض الأدوات القديمة التي استخدمها وقت الحرب مطلع السبعينيات ذكرتني بتلك الحقبة.

كان كشجرة عظيمة نزلت بهدوء حتى لامست الأرض ومن ثمّ أورقت أطرافها كنت استظل بتلك الوريقات واحتمي بها عندما تتعبني النفس ورغم أنه كان لا يفارق الفراش إلا أنّه يبتسم لي ويمنحني طاقة تنسيني كل ذلك الإعياء والتعب والخذلان الذي كنت أشعر به استغرب بكل تلك الطاقة الإيجابيّة التي لا زال يمنحني إيّاها وهو على بعد ساعات من فراق عالمنا قال لي في آخر كلماته أين المسبحة؟ فأعطيته وجلست بالقرب منه طوال تلك الليلة لا أسمع سوى تساقط أحجار تلك المسبحة التي كانت تشق صمت الليل وتنذر بنهار عصيب.

كان يحب رمضان ولم يفطره طوال حياته رغم ظروف مرضه فاختاره الله ليلة التاسع من رمضان كان يبتسم لكل صغير يمر حول سريره، ويذكر الله فالأطفال لهم معه محبة حتى أنّه في بعض الأحيان يقول أبعدوا عني هذا لكيلا أتعلق به ومن ثم لا أنام إذا ذهب، كان يدعو لنا الله بالليل والنهار أن يبارك فينا وفي ذريتنا، واليوم فقدنا بابا عظيما إلى السماء قلت لهم جاء وقت الوفاء، فطوال تسعين عامًا كان يدعو لنا فهل سندعو له ما تبقى من أعمارنا؟ وهل سنوصي به أبناءنا؟ لم يترك لي يحيى ورفاقه الصغار أي خيار، فالظاهر أنّ ما غرسه الرجل فيهم أعظم مما كنت أتوقع فكل واحد أخذ ذكرى ولم تتبق لي إلا العصا.

إلى جنة الخلد أيّها المحارب ستشهد لك بإذن الله صلاتك التي لم تسهُ عنها وأنت في أحلك الظروف حتى آخر فرض أديته قبل دقائق من فراقك للحياة، وستشفع لك بإذن الله مواقفك الخيرة مع الناس، وستشهد لك الأرض أنّك عمّرتها للناس ولكل مخلوقات الله، وستشفع لك الطيور التي تشرب مع عيون المياه التي قمت بصيانتها طوال حياتك ابتغاء وجهه الكريم.

لقد افتقدتك كثيرا ولم أعد أطيق مجالسة الناس بعدك فأنت من عالم آخر غير عالمهم رحمك الله يا أبي.