وجها لوجه

لقاء بين القديم، والحديث.. بهجة عودة الروح

وجها لوجه: د/غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي (8)

عبد الرزاق الربيعي | مسقط

 

* لاحظنا أنك تحتفين بالموروث الشعبي في متحفك "متحف غالية للفنون الحديثة" لماذا هذا الاحتفاء، وهل تحتفين بهذا الموروث في اعمالك الأدبية؟

- لهذا للمتحف قصة، وهدف، لقد أسسته لاحتضان الموروث الشعبي لحقبة من ماضي الزمان في عمان، عاشها أبناء، وبنات جيلي. ذات يوم، تلفتنا حولنا فلاحظنا إن الأشياء العادية، والصغيرة، وغير الثمينة، التي كانت مهمة في حياتنا اليومية، بدأت تختفي، وتتلاشى. وصار الجديد، والحديث، والغريب، والمختلف من الأشياء المستوردة يحل مكان الأشياء العادية التي كنا نستعملها في العهود السابقة.

الإضاءة الكهربائية في الستينيات من القرن الماضي كانت مقتصرة على سكان مسقط، ومطرح، والمقتدرين منهم، لا وجود لها في المدن الأخرى. مصابيح الكهرباء حلت محل قناديل الكيروسين التي استعملوها للإضاءة في كل بيت، وحملوها في التجول في مسقط لو خرجوا بعد الساعة العاشرة من الليل، كما ذكرت آنفا. وفي تلك الحقبة لم تكن في البيوت طباخات كهربائية، وأدوات مطبخ كهربائية من التي نعرفها اليوم، ونتمتع باستعمالها، سهلت الكثير من العناء على ربات البيوت، واختصرت الوقت. ربات البيوت كنّ يطبخن على مواقد الحطب الذي يجلبنه من الساحات البعيدة، يزورونها كل شه، أو كلما تطلبت الظروف.

ولم تكن البيوت مزوّدة بأنابيب مياه مثل التي نعرفها اليوم، كانت النسوة يجلبن الماء صباح كلّ يوم من الآبار البعيدة، يحملنه على رؤوسهن، ويتضرعن الى الله الا ينفذ قبل انتهاء اليوم لما يسببه من عناء لقلة الاحتياطي. الناس كانت تجلس، وتأكل على الأرض، فلا (كنبات)، ولا أسرّة، أو طاولات طعام، وملاعق، وأواني كالأواني الجديدة التي نستعملها اليوم، وغيرها من اللوازم المنزلية الحديثة، وتعتبر الآن عادية، ومن مستلزمات الحياة العصرية، والضرورية.

الذي يجب قوله، في تلك الحقبة من الزمان، إذ كل شيء قليل، ونادر، وعسير، وجدنا أسرا في عمان تتمتع بترف، ورغد الحياة، تسافر على البواخر الهندية، وغيرها من البواخر، تحجز لهم خصيصا لقضاء العطلات السنوية الصيفية، وغيرها من عطل، أو للعلاج، أو للتعليم، أو حتى للتسوق للأعراس. تصل هذه البواخر الى ميناء مسقط القديم الذي يحاذي قصر العلم في مسقط ويسافروا عليها متوجهين إلى الهند، وباكستان، وإيران، والعراق.

ما أن بدأ الناس ينتبهون إلى اختفاء، وغياب هذه الأشياء، تعجبوا وتحسروا على فقدانها، وأفزعتهم حقيقة اختفاء ما عرفنا، واستعملنا من الأشياء البسيطة التي دارت حياتنا اليومية حولها. خذ مثالا بسيطا المروحة اليدوية التي تعرف "بالمشبة"، فهي تستعمل لتلطيف الحرارة لعدم وجود المكيفات، أو المراوح الكهربائية، ولم تخل جلسة، أو تجمع نسائي منها، بمجيء الكهرباء استبدلت بالمكيف. وأداة أخرى عرفت "بالكولة البريمس" تستخدم لطهي الطعام في البيوت، وفي المطاعم، والمقاهي التي كانت أعدادها قليلة، ويتواجد بعضها في مسقط ومطرح، فجأة انقرضت، وبدأ الناس يطهون بأجهزة أخرى. ويمكنني ذكر أشياء كثيرة مثل وعاء غسيل الثياب المسمى "لجن"، وأجهزة، وأدوات أعانت الناس في الاستعمالات اليومية، حكم عليها الدهر بالاختفاء من مسرح الحياة، وفتح الطريق لمجموعة جديدة من الأدوات.

قبل افتتاح المتحف، كنت أجمع هذه الأشياء مثل حلي الفضة، وزينة المرأة العمانية، والقروش المعروفة بالقروش العمانية، وكانت العملة المتداولة في تلك السنين، ومثل الخناجر، والأواني القديمة، وغيرها من الأشياء غير الثمينة. في بداية الأمر لم أجمع هذه الأشياء لأضعها في متحف، بل لأزين بها مكان معيشتي كي تلاحظها عيني وتدور حولها ذاكرتي. كانت تربطني بالزمن، والناس الذين لم تكن لديهم هذه الأشياء البسيطة للاستعمالات اليومية.

 

•        وما هو الدور الذي ينبغي على المهتمين القيام به لإحياء هذا الموروث؟

-        المطلوب منا ليس الاحتفاء بالموروث الشعبي العماني، بل حضنه، وضمّه داخل كبسولة الزمان، والمكان كي يبقى لأمد طويل يتجاوب مع وجداننا، وذاكرتنا.

تجدنا نستمتع برؤية التراث العماني في مثل هذا المتحف، التراث البسيط، والقريب لقلوب الأغلبية من الناس. نحن هنا لا نقصد تراث الصفوة ذا الثمن الغالي، ولو، والحمد لله، لدينا في عمان الكثير مما نفتخر به بين الأمم من الموروثات الغالية الثمن، ودقيقة الصنع كحلي الفضة، والخناجر، والبنادق، ناهيك عن المعمار العماني القديم من قلاع، ومساجد أثرية، ربما لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم.

 

•        على ماذا قامت فكرة تأسيس المتحف؟

-        تقوم فكرة المتحف على تأسيس مكان يحوي الأشياء اليومية، والعادية التي جمعتها، وكانت قريبة من حياة الانسان العادي في السنين الماضية. ستجدون أباريق شاي، أطباق، مراجل الطبخ، لعب الأطفال، وحتى سرير الطفل الذي يسمونه المنز. أتذكر تماما بسبب قلة أدوات لعب الأطفال، والزينة، كانت النساء يصنعن للمواليد الجدد وسائد صغيرة تدعى السمبوسة، شكلها مثلث، مصنوعة من خرق، ومحشوة بالقطن، أطرافها مزينة بالخرز، والصوف الملون. تعلق السمبوسة المزركشة وسط خشبة سرير المنز، المصنوع يدويا إما من خشب، أو من سعف النخيل، والحبال، وكلما صاح الطفل، تهزّ الأم أطراف المنز، فتتحرك الوسائد الصغيرة الملونة أمامه، فتصرفه عن البكاء. تستطيع الأم خلع المنز، وحمله معها إلى أي مكان تعمل فيه حتى المطبخ، وبذلك يكون الطفل قريبا منها لأنه في تلك الأيام لم يكن في البيوت شغالات من خارج نطاق الأسرة نفسها.

وتوزع الام وقتها بين شتى الأعمال، جلب الحطب للطبخ، والماء للشرب، وإن كان لدى الأسرة مزرعة، فتعمل بجانب زوجها في جني المحصول من تمر، وليمون، أو موز، واستخلاص منتوج التمور، وهكذا. هذه هي حقيقة اصراري على إنشاء المتحف حضنا لما ألفه الناس في الماضي، قبل تبدده، وغيابه نهائيا.

ولقد أتتني فكرة المتحف من دون تدبير مسبق على الاطلاق. ولسبب من الأسباب، وأنا أدرس في بريطانيا، نويت البحث عن بيت في مطرح يطلّ على البحر مقابل ميناء السلطان قابوس لأشتريه، على الرغم من أني لا أعرف الكثير عن حارة مطرح، فلم أسكن فيها من قبل. فقد عشت داخل مسقط القديمة، أعني خلف جدران بوابة مسقط التي عرفت بالباب الكبير، عشت في بيت عم أبي المرحوم السيد نادر بن فيصل. كان لهذا البيت قسمان، قسم خاص بالسيد نادر ذاته، والقسم الآخر لابنته المرحومة السيدة مزنة. في تلك الأيام، وبسبب قلة المدارس، خاصة مدارس البنات، وضع آباؤنا على ابنة عمهم المرحومة السيدة مزنة بنت نادر مسئولية رعايتنا، وتعليمنا أنا، وأخي، وأبناء، وبنات عمي. الصبيان درسوا في المدرسة السعيدية، والبنات في المدرسة الارسالية حتى السبعينات بداية عهد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد. بعد ذلك انتقلنا للعيش في بيت جديد، ولكنه قريب من بيت المرحوم السيد نادر، وبيت السيد شهاب بن فيصل والسيد عباس بن فيصل والسيد ملك بن فيصل، والسيد حمد بن ابراهيم، والسيد هلال بن سعيد البوسعيدي، وغيرها من البيوت المعروفة في ذلك الوقت. بيت السيد نادر ما زال في مكانه لتحويله إلى متحف تحت رعاية وإدارة وزارة التراث والثقافة.

في الحقبة الجديدة التي بدأت بعهد صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بدأ البنيان، وتوسعت الأماكن، والشوارع، ومن بين الانجازات الانشائية، والمعمارية تشييد الشارع البحري المعروف بشارع الكورنيش. على واجهة هذا الشارع بنيت عمارات حديثة، ودكاكين كثيرة، ومن بينها عمارة صغيرة كنت أراقبها كلما سارت بنا السيارة من، وإلى مسقط. تخيلت تلك العمارة، وكأنها تقع في الإسكندرية، ولو أني لم أذهب إلى الاسكندرية الا مرة واحدة في حياتي، في أوائل السبعينيات، ولم أر الكثير من معالمها.

وبعد ذلك سافرت للدراسة في بريطانيا، وكما قلت آنفا، لسبب ما بدأت تلح في رأسي رغبة شراء بيت مطل على البحر، وفورا وصلت الى ذهني صورة تلك العمارة الحديثة المطلة على بحر ميناء السلطان قابوس. فبدأت البحث عمن يساعدني على شرائها، أخيرا توفقت، وتمكنت من شراء هذه العمارة، وكانت بجانبها بيوت صغيرة، وكان لدى أصحابها رغبة في بيعها والانتقال الى بيوت أكبر في المناطق الحديثة التي بدأ سكان مسقط ينتقلون إليها.

وظل كل شيء في هذا المكان كما هو، لكن قمت بصيانة العمارة، فقد كانت في حالة سيئة من الإهمال، وكان صاحبها يؤجّرها بثمن زهيد للوافدين، وكنت أنوي السكن فيها. أما البيت الأكبر من بين البيوت الأخرى، لسبب من الأسباب تركت بابه مفتوحا، كل من مرّ من أمامه يدخل، ويصيبه العجب. ويقول جميع الناس بنوع من الشوق للماضي، يا للروعة!!، يجب أن تتركوا هذا البيت كما هو، لا تلمسوه ولا تغيروا أي شيء فيه، يجب تحويل هذا البيت إلى متحف، صورة باقية لبيوتنا القديمة التي تلاشت.

ووجدت نفسي أنحني استجابة لطلب الناس، فتقدمت بطلب عند وزارة التراث السماح بتحويل هذا البيت إلى متحف، تفقدت الوزارة المكان، وصادقوا عليه، وهكذا كانت بداية المتحف. وبدأت إصلاح المكان، وكان هنالك احتمالان: أن أضع في هذا المكان ما غلا ثمنه من الموروث، وندر، أو أضع الأشياء اليومية العادية؛ فاخترت الأشياء اليومية البسيطة. الحمد لله لدينا في عمان متاحف خاصة عديدة بسبب اهتمام الناس،" وحبهم للموروث، تركز على أنواع الموروث العماني الرائع، والثمين. فقلت لا داعي للثمين من المقتنيات، ذلك متحف يحتوي على الأشياء العادية من التي كانت في العهد الماضي، وتستعمل يوميا لكنها بدأت الآن تنقرض. المتحف بيت تنطبق عليه المعايير الفنية لبيوت تلك الأيام لحقبة ما قبل السبعينيات، يحاكي بيت أسرة عمانية، تفوح منه رائحة البخور، واللبان العماني، وعند دخوله لو لم تعرف إنه متحف لشعرت، وكأنك مختلس الزيارة لأهل هذا المكان.

وبدأت وضع الاساس الفني للمتحف، ورص ما عندي من مقتنيات تلك الحقبة من الزمان، الأشياء البسيطة، وغير الثمينة من ناحية إنها ليست من ذهب، أو فضة ولكنها ثمينة من ناحية الذكرى التي تبثها، والرمزية التي تمثلها. من بين المقتنيات التي يحتضنها قلبي في المتحف مشرب مصنوع من المعدن العادي ولكني أعتبره من الأشياء النادرة، ولهذا المشرب قصة. ذات يوم كنت في سوق مطرح أتطلع الى الأشياء في دكاكين بائعي التراثيات، والمقتنيات القديمة، كما أفعل كلما أذهب إلى هذا السوق. فجأة رأيت هذا المشرب، وعادت بي الذاكرة إلى الأيام التي لم يخل بيت من البيوت العمانية منه، لقلة تواجد المشارب، والكؤوس المصنوعة من المعادن الأخرى، أو الزجاج. فورا سألت البائع عن ثمنه، فقال خمسة ريالات، ولكن سأعطيه لك هدية، فرحت كثيرا، وحتى اليوم ما زال في المتحف في الغرفة الشتوية "الجنز"، أو "الصفة"، يغطي فم قلة الماء المعروفة بالجحلة.

 

•        منذ سنين، تعملين على تكملة انشاء متحف للفنون المعاصرة، التي تستهويك تماما كما يستهويك الموروث الشعبي، هل هو نوع من موازنة المعادلة بين الأصالة، والمعاصرة؟

-        في الواقع فكرة انشاء متحف للفنون المعاصرة راودتني قبل التفكير في تنظيم، وإنشاء متحف للموروث الشعبي. ويظهر أن لكل عمل قدرة ذاتية على انجاز نفسه، مهما كانت الظروف، والعقبات التي تواجه خطة العمل عليه، أو رغبة من يقف خلف فكرة إنجازه. تجد عملا معينا يدفع بنفسه الى مقدمة جدول الأعمال، ربما هناك يد خفية تدفعه حتى مرحلة الإنجاز، والمحطة الأخيرة. ليس صاحب الفكرة من يقرر متى، وكيف ينجز العمل؟، فالأقدار هي التي تقرر ذلك.

أحاول تكملة هذا المشروع على الرغم من معرفتي أن الترحيب به سيكون محدودا. قليل من الناس يرحّب بالفنون المعاصرة بخاصة التشكيل، والتصميم، بل يصح القول أن هناك ردة في قبول الفنون المعاصرة، أو تستطيع تسميتها بحركة مناهضة للفنون المعاصرة.

 

•        ما سبب عدم تقبّل هذه الفنون، برأيك؟

-        بدأت تلك الحركة المناهضة منذ الثمانينات من القرن المنصرم، ربما لأن الفنون المعاصرة خرجت عن طور المعروف، والمألوف في الشكل والمحتوى الفني، وبسبب استعانة الفنانين المعاصرين في خلق ابداعاتهم بالأدوات الميكانيكية والتكنيكية. تلك التقنيات بعدت عما عرف، واستعمل سابقا في الانتاج الفني، التشكيلي، أو الموسيقى، وغيرها من الأعمال، كالحفر، والنقش، أو التطريز اليدوي. ففي عالم الموسيقى المعاصرة صاروا إلى استعمال الالكترونيات بكثرة وغيرها من الآلات، وابتعدوا عن الأدوات، والتقنيات التقليدية المعمول بها سابقا والتي وصلت مكانا عميقا في ذاكرة متلقيها. الان هناك موسيقى تسمى بالموسيقى الالكترونية تشوش الصوت، وتزيد من الصخب المطلوب في الحفلات الغنائية الحديثة.

ونحن نسأل ما الجميل في الفنون المعاصرة؟ فهي حصيلة جنون، وضعف في المعرفة، والتقنية والأداء الفني. الفنون التشكيلية، وخاصة التجريدية منها يقال إنها ليست سواء خربشة، وتداخل لا نهاية له، وما المقصود منه لا أحد يعرفه.

 

•        لماذا الاحتفاء بالفنون المعاصرة، ولدينا كنوز من الموروثات الجميلة التي نفتخر بها في العالم العربي؟

-        هذه تساؤلات مشروعة، ولها ما يدعمها، ويبررها في الواقع المعاش، والتجارب المنجزة، ولكن الجميع غفل عن مسألة مهمة، وهي إنّ عالمنا المعاصر يسبح وسط اختراعات، وابتكارات، وصناعات جديدة، ومختلفة في شتى المجالات، هي عصارة أفكار المبدعين، والمصممين. إذن كيف لا نلتفت للفنون المعاصرة، والصناعة الحديثة، ونبدأ بالاحتفاء بها، تماما كما نفعل مع الموروث القديم. لم تظهر هذه الفنون من فراغ، أو من وهم خيال، فهي عصارة جهد المبتكرين. حتى في عالم الشعر تجد هذا النقاش عن الذي فعلته قصيدة النثر في عالم الشعر الأصيل موزون القافية. انتفضت قصيدة النثر، وتخلت عن القافية والوزن، وما وقفت عليه القصيدة العربية لعهود من الدهر.

 

•        إن أين تكمن الإشكاليّة؟

- في الحنين لما كان وكيف كانت عليه الأمور، وفي رغبة ملحة لإعادة الأسس، والقواعد التي غيرها التطور السريع من الابتكارات المختلفة التي ضربت قواعد، وملامح الأشياء. نحن في أوساطنا العربية نتحسر على هدم الأشياء، واستبدالها بالجديد والحديث، ويحدث ذلك حتى في الأوساط الغربية التي أتت منها الابتكارات الكثيرة، والسريعة، هي التي قادت العالم للتخلي عن معايير كثيرة في أسس الصناعة، والابتكار، وغيرها من الصناعات الكثيرة التي تدور حياتنا حولها. نعم، حتى الغرب يحنّ الى الماضي، ويتحسر على غياب ضوابط كثيرة لها علاقة بالقديم، وكما يقولون "يقتل القتيل ويمشي في جنازته".

 

•        هل يشغلك كثيرا، تغيّر الأحوال في عالمنا؟

-        هناك مناقشات مستمرة، وحادة كأنها بكاء على تغير الأحوال، والأمور في شتى المجالات في عالمنا. الجميع ينعى تضعضع القواعد، والأسس بخاصة في مجال التعليم، تغيرت جذوره، وأسسه، وقواعده، وبنيته، فضعف تفكير الجيل الجديد من طلاب، وطالبات المدارس، وحتى المثقفين. صار هذا الجيل مهووسا باللهو والتسلية، قليل التركيز على الأسس، والمبادىء، والقيم ولا يعي مشاكل المجتمع والشعوب. جيل اليوم لا يأبه، ولا يلتفت الى الامور المهمة التي ستعنيه في المستقبل بسبب قلة القراءة والمطالعة وتضيع الوقت في مشاهدة التلفزيون واللعب بالإلكترونيات الحديثة التي ملأت حياته ومحيطة.

ولكن هل يصح لنا إلقاء كل هذا اللوم على الجيل الجديد، طالما مكائن التغيير والتطوير تطرح كمية كبيرة من الاختراعات، وتضعها أمام سمعهم، وبصرهم ليل نهار. كيف يعزل الجيل الجديد نفسه عن محيط غارق في التغيرات الكثيرة، والكثيفة التي أطاحت بأسس، وقواعد كثيرة، وفي شتى المجالات، فالحرية المطلقة في الغرب قادت للتفكير المبدع، وذلك قاد الى التقدم، ومن أهم مظاهره الاختراعات العلمية، والصناعية.

ونحن صغارنا، وكبارنا نعيش وسط اجتماعي محدد، وما يتواجد فيه يكون له تأثير بالغ علينا، كيف نهرب منه، وكيف يهرب منه الجيل الجديد، وإلى أين يذهب؟ في بعض الدول الغربية ضياع أسس التعليم أدى ببعض الآباء لبيع بيوتهم من أجل توفير المتطلب من المال لتعليم أبنائهم، وبناتهم في مدارس المناهج التعليمية تقف فيها على أسس قديمة. مثلا في مجال الفنون التشكيلية لم تعد المدارس والكليات مجبورة على تدريس الرسم كمادة أساسية، أو الرياضيات، أو الإملاء.

من هنا تأتي مشكلة تقبل الفنون المعاصرة، الحنين لما كانت عليه الأمور تجعل الناس تعزف عن الجديد، ولا تقبل الفنون المعاصرة. رغم بعض السلبيات، نقول للجديد الكثير من الإيجابيات، لقد جلب لنا التقدم العلمي ما لم يخطر على بال الانسان من امكانيات في شتى المجالات أهمها: العلوم، والطب، والهندسة الالكترونية، وغيرها من الصناعات، والاختراعات الجبارة، والانتاجات المتعددة. المنتجات المعاصرة، لا شك، سهلت على الانسان صعوبات كثيرة، وأزاحت عنه العناء في مختلف المجالات.

مجمل القول، علينا ألا نصدّ، الحداثة، وبما أتت به من تقدم، وتطور، وغيرها من ابتكارات، واختراعات. وعلينا الاحتفاء بالمعاصرة تماما كما نحتفي بالموروث الكلاسيكي، والشعبي، فليس من العدل، والمنطق العزوف عن الفنون المعاصرة، ما دمنا نتمتع بحصاد، وتطور الاختراعات، والصناعة.

 

•        ولماذا لم يتم العمل على هذا المتحف، حتى اليوم؟

-        يتطلب المتحف جهدا فكريّا، وماديّا ضخما، وأتمنى الا أفشل في غايتي في إنشائه. وأتمنى اقناع المتلقين بقبوله، والترحيب بالفنون المعاصرة التي نرى فيها ابتكارات الانسان الفكرية، وقدرته على التجدد، والسير بحصيلة السابقين، والدفع نحو أقصى الحدود في مسيرة التقدم، والتطور، مهما كانت العواقب، والنتائج. علينا الانحناء للتجديد، والابتكارات، ففيهما تتجلى عظمة الله سبحانه، وتعالى، وقدرته، وكرمه على الانسان، فهو الذي أكرم الانسان، وعلمه ما لا يعلم.

 

•        رغم انشغالاتك المتعددة فما زلت تواصلين الكتابة، وأنجزت خمس روايات، لماذا هذا الاصرار على الكتابة؟

-        مشاغلي كثيرة، وتكاد لا تنتهي، ولكن أقول الحمد لله على ذلك، أقابل الصباح كل يوم بمسؤولية جديدة تتطلب مني حلّها، وانجازها بتوظيف جهدي الفكري، بالإبداع، أو طلب معاونة. وإن كانت الكتابة بلية على الكاتب خاصة كتابة الرواية، فهي أحلى ما ابتليت به من بلاء. الكتابة تعني الكثير بالنسبة لي، فهي متنفس لشكوكي، وصدى لأفكاري، انعكاس للذي تشهده عيوني، وهي وسيلة للحديث عن معاناة الناس، وطرح قضاياهم، ولمس أفراحهم، وأتراحهم. والكتابة تأتي على شكل صور تتحول لكلمات، وتضوع بين فقرات الرواية، وسطورها، إذن كيف أستطيع التخلي عنها؟ فهي تعني لي كل هذا، وأكثر.

 

•        من الملاحظ أنك تعيشين نوعا من العزلة عن الأوساط الثقافية، بعيدا عن الأضواء، ما السبب؟

-        سؤال محير، هي ليست عزلة اخترتها طوعا، وبمحض ارادتي، إنها مشاغل الدنيا التي أدت الى هذه العزلة، إن كان حقا نستطيع تسميتها عزلة، ولو كان اختلاطي قليلا في الأوساط الثقافية، فاهتمامي بكل ما ينتج أدبيا، وغير ذلك في الوسط الثقافي في عمان كبير. أتابع الوسط الثقافي من بعيد، وأفرح بنجاح الكاتبات، والكتاب العمانيين. إذا قرأت، أو سمعت عن عمل جديد أشرع فورا أبحث عنه، وحتى الأعمال الفنية أسارع لرؤيتها في صالات العرض. أعتبر نجاح أي عماني، وكل عربي في أي ميدان من ميادين الفنون، أو غيرها نجاحا لي، وأحزن كثيرا عندما يتوقف الكتاب العمانيون عن الكتابة، والتأليف في أي مجال من مجالات الكتابة، والصحافة.

وتجدر الاشارة هنا، جميع النقاد يقرون أن حضور العمانيين، ثقافيا، وفنيا، كان بارزا في دول الخليج التي هاجروا اليها في أيام الستينات من القرن العشرين. وجودهم لم يكن مقتصرا على العمل، بل شاركوا ثقافيا، منهم من كتب، ومنهم من ألّف الأغاني التي لا تزال منتشرة الى يومنا هذا، وقبل ذلك وصلوا إلى حدود بعيدة، الى افريقيا حيث عمروا تلك الرقعة، ونشروا الدين الإسلامي واللغة العربية، والموروث العماني ما زال صامدا حتى يومنا هذا.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك