حالة الانفصام بين الواقع العربي.. الشعبي والنخبوي

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

لا يتصور أن يقوم نجاح لإرادة الدول السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلا عن طريق هذه الحالة من العمل التعاوني الناشئ عن مفهوم "العقد الاجتماعي"، وإن اختلف مفهوم هذا العقد من ثقافة إلى أخرى ، ومن مجتمع لآخر.. لكن في النهاية تحقق الدول إنجازاتها من خلال هذا التعاون المثمر الذي يستطيع توصيف الأدوار المنوطة بكل فئة من فئات المجتمع (القادة ـــ النخبة ـــــ الشعب) ، وعند اضطلاع كل فصيل بالدور الذي يتقلده من خلال منظومة العمل والقيم والأخلاق يجمع هذه الباقة رباط من التعاون المثمر، الذي ينجب نوعا من الأداء المجتمعي المتناغم المترابط "المبدع في النهاية "، الذي يأخذ الأوطان من حالة الركود والتخلف إلى حالة من النشاط الدؤوب والفكر الوثاب .

إذا . . فلابد أن يكون هناك هذا الإدراك المتكامل المتفهم لمضامين هذا العقد ، واستيعاب كل طرف لدوره في المنظومة الإدارية المكتملة ، وحين يستعدي بعض الأطراف على حقوق الطرف الآخر، يترتب على ذلك نوع من الخلل في الناتج الأدائي الجمعي،

كما أن تخلي أحد الأطراف أو تحوله عن دوره المنوط به الذي ربما لا يكن منصوصا عليه بقدر ما هو مفهوم من خلال ثقافة العمل الاجتماعي والسياسي التي تجمع المنظومة الإدارية للدولة ، كزيادة إقحام الأفراد أنفسهم في السياسة العامة ، أو اقتطاع السلطة من الدور الفئوي والمنظمي للعمل الجماهيري كالنقابات وسائر منظمات المجتمع المدني والمنابر الدعوية الإصلاحية ، والصحافة والتضييق الإعلامي، أو حين تتخلى النخبة عن التواصل الجماهيري وتضعف أمام مغازلة السلطة أو ضغطها أو قهرها فإن ذلك مما يفقد الثقة بين الأدوار المجتمعية والسيادية والنخبوية للدولة ، وينتج حالة من الفصام بين عناصر المجتمع والتي تذهب الجهود الوطنية جماعات و فرادى..

العلاقة بين النخبة والجمهور علاقة جدلية تكاملية يأخذ أحدهما من الآخر بقدر ما يعطي له ، ويؤثر أحدهما في الآخر بقدر ما يتأثر به ، ثم يقدمان للمجتمع صورة تكاملية تعاونية نابضة ناجعة طالما استمرت هذه العلاقة في هذه الحالة من التجاذب والتقارب والتنافر أحيانا ؛ لكن يظل الحبل موصولا والقناعة بانتفاع كلا الطرفين من الآخر مع حتمية التفاعل والتجاذب ، ودرجة الثقة النسبية فيما تمليه أو تشير به النخبة على الجمهور ، وما تستطيع أن تؤديه من الترجمة الحقيقية عن السلطة ، وكذا الترجمة العكسية لمطالب الجماهير لدى السلطة ..

هكذا تمثل النخبة هذه الحلقة القوية من الصلة بين سدة الحكم والشعوب ، وبدونها تتسع هوة الفهم بين الطرفين ويكاد يخرج العقل الشعبي من المدار الفلكي للسلطة إلى فلك آخر من السخط والتمرد، هذه النخبة من رجال الإعلام والدعاة وأساتذة الجامعات والكتاب والمفكرون ، الذين ينبتون من رحم المجتمع ، وتشمل رؤيتهم هذه التفاصيل اليومية من خلال الملاحظة والمشاهدة والمخالطة بين أوساط الجماهير من الطبقة العريضة المتوسطة (ثقافة وعلما ودخلا)،  الذين لا يجيدون لغة السياسة إلا ما يقول العامة وما يتناقل بين التجمعات اليومية ، وما يشاع في أوساطهم .. أما بوصلة الاهتداء فهم دائما شاخصون إلى ما ينقله الإعلاميون والمفكرون والنواب والمنظرون (النخبة ) على درجة من الثقة في بعضه والرفض والشك في بعضه .

أما العلاقة الأخرى بين النخبة وصناع القرار أو الساسة فهي علاقة على درجة أقوى من الشد والجذب ، والمغازلة والضغط والبطش أحيانا حسب قوة الظهير الشعبي لممثل النخبة ودرجة الثقة فيما يمليه عليهم ، فتنوب النخبة عن السلطة في تفهيم كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية الغير مرضية ، وإقناع الناس بتجرع المزيد من جرعات الصبر وانتظار المزيد من الوقت ، حتى تؤتي الخطط ثمارها ، وتحصد ما زرعت .. وهكذا تحاول الشعوب أن تصدق هذه الترجمة أملا فيما هو قادم من الأفضل ، وكذلك حفاظا على ما في أيديها من الأمن والاستقرار وإن كان نسبيا ، إلا أن الرفض قد تكون نتائجه أصعب من قدرة الاحتمال ، ويفقد الإنسان ما يندم على فقده..

أما الجديد الطارئ فهو هذه الحالة من تذويب النخبة أو تجريفها أو تهميشها من جانب سلطة اتخاذ القرار (في الوطن العربي) والضغط عليها ، للتوقف عن هذا التواصل الجماهيري  والترجمة الغير مرضية عن السلطة أو نقل الصورة الحقيقية كما يراها النخب دون أي مداراة أو تجميل ، واستبدالها بالصورة المثالية ، وهو ما يثير الرأي العام حينما تكون الأوضاع السياسية والاقتصادية غير مرضية ، فتلجأ السلطة إلى حالة من الاستقطاب للنخبة الذي يتمثل في الترغيب والترهيب والتهديد واللجوء إلى وسائل الضغط المختلفة حتى اضطرت النخبة على التخلي من كثير من الدور التاريخي الذي كانت تؤديه تجاه الشعوب مع السلطة من حالة الربط والتقريب بين وجهات النظر ، والحشد الجماهيري أمام المستجدات على الساحة السياسية .

وأمام هذه الحالة من التغول السلطوي (خصوصا) بعد مرحلة الربيع العربي التي تمخضت نتائجها عن حالين لا ثالث لهما: إما التحول إلى حالة الانهيار والاقتتال الطائفي وضياع المكتسبات التاريخية والموارد والقيم المجتمعية في تمسك بعض القيادات بالحق التاريخي الأبدي في السلطة وجعل بديل استمراره هو الفناء التدريجي للشكل الوطني وممتلكاته (سوريا مثالا) ، أما الحال الثانية فهي التي قادت إلى تغول عناصر السلطة التي أفلتت من هذا المصير واعتبرت نفسها المنقذ لأوطانها وشعوبها من التردي إلى هاوية اليمن وليبيا وسوريا والعراق .. ثم تربعت هذه النماذج المتسلطة على العروش تنشد الأبدية وتمن على شعوبها بما تحفظه لها من حق الحياة الذي تملكه لها ، وتخيرها بين حالتي الإذعان القهري للصورة الهامشية للوطن أو الفناء القسري ، حتى أصبح لسان حال الشعوب:

أذل الحياة وكره الممات             وكلا أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غير إحداهما   فسيرا إلى الموت سيرا جميلا

وبالتالي فلم تعد هناك الحاجة إلى مثل النماذج النخبوية التي كانت تستدعيها حتميات المشهد السياسي القديم ، والتي كانت بمثابة الشريك غير المعلن في السلطة والتواصل الجماهيري ، فراحت تتخلى الأنظمة عن النخبة إما بصورة التهميش والتضييع أو النفي الاختياري، أو الاستقطاب التي أوى به بعض النخب إلى أحضان السلطة كالإعلاميين ، والتضحية بالثقة الجماهيرية التي كانت تصنع نجوميتها الاجتماعية ، واستبدلت بها كنف السلطة وما يتولد عنه من مصالح توشك أن تبيد بمجرد تخلص السلطة منها بعد انتهاء الدور المرحلي ثم لا يكون إلا الوقوع بين مطرقة بطش السلطة وسندان اللعنة الشعبية ، ثم إلى غياهب التاريخ .

ومن خلال هذه الأوضاع المتردية من انفصام النخبة عن الجمهور، تحاول الجماهير الاستعاضة عن النخبة ببديل يحظى بشيء من الثقة والفاعلية ، كما تستطيع من خلاله التعبير عن سخطها ومعاناتها .. هذا البديل هو وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة والتي جعلت من العالم شبكة إعلامية فورية متنقلة من المشرق إلى المغرب في لحظات، ووسائل الإعلام الغير وطنية الموجهة خارج درجة التحكم السلطوي ورقابتها نسبيا ، فكانت الحالة الأخيرة التي رأيناها في السودان والجزائر ، وربما يكون لها تكرر في بعض بلدان الوطن العربي والتي تنم عن السخط الشعبي ، والناتجة عن تذويب فئة اجتماعية على درجة من الأهمية في التصنيف الاجتماعي وقد كانت تحفظ هذه الدرجة من التوازن بين السلطة والشعب .

هذا البديل من وسائل التواصل والإعلام الخارجي يفتقد إلى كثير مما تمتاز به النخبة ، وهو العقلانية والموضوعية النسبية التي تستطيع تقييم المواقف والحفاظ على حالة الاتزان المجتمعي ، فهي لا تبالي بما يترتب على الانتفاضات والثورات من ضياع مكتسبات الأوطان من الأمن والاستقرار وتأخر الدور التاريخي والحضاري ، بالإضافة إلى صورة المعاناة الإنسانية التي نراها واضحة في التهجير القسري وافتقاد المأوى والمأمن والمسكن..

كما لا تؤمن هذا البديل من وسائل التواصل من التوجيه الممنهج من العناصر والأيادي الخارجية التي لها مصالح استراتيجية في فرض هذه الحالة من عدم استقرار الشعوب العربية ، وفناء ثرواتها من خلا ل الانتفاضات والثورات الموجهة مستغلة حالة السخط الشعبي مع اللعب على أوتار استبدال النهضة الاقتصادية والسياسية ، والالتحاق بركب الحضارة السادر بمعزل عن أوطاننا العربية، وهكذا نقدم بأيدينا إلى أعداءنا ما يخربون به بيوتنا ويهدرون ثرواتنا في ظل هذه الحالة من غياب الوعي السلطوي المعول دائما على فكرة البقاء والاستمرارية بحجة المصلحة الوطنية ، والترسيخ لإقناع الشعوب بأن البديل لن يكون إلا الفوضى والتهجير .

نحتاج لاسترجاع الدور النخبوي المجتمعي كما ينبغي أن يكون حتى لو كان على حساب اقتطاع جزء غير مسمى أو معلن من السلطة ، مع توسيع صلاحياته في التواصل مع الجماهير والارتفاع بالوعي السياسي الشعبي ، واستعادة الثقة في النخبة بدلا من وسائل التواصل الجامدة المبهمة الأهداف والتوجهات، والإعلام المضاد .. منابر دعوية واعية بمساحة حرية حقيقية ، وإعلام صادق نسبيا هادف ليس إلى الربح الشخصي على حساب الوعي الجماهيري ، إنما إلى زيادة الوعي الشعبي والاتصال بمراكز اتخاذ القرار .. النخبة جزء من عصب المجتمع والسلطة فإن ضيعت اختلت معها موازين الأوطان .

تعليق عبر الفيس بوك