النفسانية القومية لشعوب تارتاريا السابقة لـ"غيورغي سيدوروف"

 

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

تقول الأسطورة السيبيرية، وهي من بين الأساطير التي ضمنها الباحث الروسي غيورغي سيدروف كتابه الجديد: "النفسانية القومية لشعوب تارتاريا السابقة" (ونحن ننقلها هنا كاملة لجمالها وجاذبيتها الروحية العميقة، وأيضا لأنها تضيء لنا الكتاب في بعده الجمالي) تقول الأسطورة إنه في الأزمنة القديمة، وعلى شاطيء المحيط، عاشت فتاة جميلة. وفي أحد الأيام اقتربت الفتاة من حافة الأمواج فرآها الحوت.. وقع في حب الفتاة وطلب من روح المحيط العظيم "نوري آك يوك" أن يمنحه هيئة رجل. وهبه الروح العظيم صورة شاب ولكن لمدة عام فقط. لقي الرجل/ الحوت الفتاة على الرمل بالقرب من البحر وسرت بينهما عاطفة الحب. ولكن سعادتهما لم تستمر لأكثر من سنة واحدة.. فغادر الرجل الحوت اليابسة إلى المحيط تاركا الفتاة وحدها. ورغم ذلك لم تكف عن القدوم إلى الشاطيء والنظر إلى الجهات الأربع وكلها أمل أن ترى حبيبها مرة  أخرى. أما الحوت نفسه فلم يبتعد عن الساحل قط، وحتى في فصل الشتاء، عندما تغادر الحيتان الأخرى باتجاه الجنوب الدافئ، كان هو يمكث في مكانه قبالة الساحل حتى لا يمر يوم من حياته من غير أن يرى محبوبته.. فكان طوال الليل القطبي، ولكي لا يتجمد من البرد، يحطم جليد البحر بجسمه العملاق. كان الجليد الحاد يقطع جلد الحوت، وفي نهاية فصل الشتاء، يغدو الماء مصطبغا بلون الدم. عرفت الفتاة أن الحوت هو حبيبها الغائب، فكانت تبكي وهي تحاول إقناعه بعدم البقاء للشتاء القادم. كانت تقول له إنها ستنتظره في الربيع وسوف يجتمعان مرة أخرى. ولكن يأتي الخريف والشتاء والحوت لا يغادر مكانه قبالة من يحب... وهكذا تمر السنون وتنقضي حياة الإنسان، فتأتي هي إلى البحر للقاء حبيبها وقد أصبحت عجوزا منحنية الظهر..  والحوت ما زال مخلصا لها ولحبه... قرنان من الزمان مرا. وانتقل قوم "الإنويت" من الساحل، إلا أنه، وفي المخبأ الوحيد على الرمال، القريب من حافة الموج، لا تزال تعيش امرأة عجوز، ولا يزال حبيبها يسبح أمامها في البحر. إن الحب الكبير يُبقي على رعاف الحياة نابضة في قلب المرأة العجوز التي كانت تعلم أن موتها يعني موت من تحبه.. ويوما ظهر أناس أشرار، أبحروا على زوارقهم إلى المكان وقذفوا بعشرات الحراب إلى جسم الحوت. وعندما جروه إلى الشاطيء، احتضنته العجوز بيديها الضعيفتين آخر مرة، عندها، وفي الوقت نفسه، توقف قلباهما عن الخفقان.

   إن أساطير الشعوب الأصلية لسيبيريا في الشرق الأقصى، أو أقصى الشمال لأراضي روسيا المعاصرة، عميقة في نفسانيتها، فهي تتحدث عن النشوة الروحية للإنسان وعن قوة مشاعره. وليس من قبيل المصادفة أن يقوم مؤلف الكتاب بتضمين كتابه حكايات أسطورية من تراث تلك الشعوب، فهو، كونه عضوا في الجمعية الجغرافية الروسية ورحالة وأنثروبولوجيا، لا يزال متمسكا بقناعته أن أولئك الأقوام، وحتى أيامنا هذه، لم يفقدوا صفاتهم الإنسانية العالية، وبأنهم تمكنوا من الحفاظ على ثقافتهم الخاصة وعلى روحانيتهم النادرة أمام مد الحضارة الجارف. وكثيرا ما يؤكد المؤلف الذي قضى سنوات بين ظهراني تلك الشعوب أن معرفة التراث الأدبي أو الملاحم البطولية الشعبية ذات المضمون التربوي مثل أسطورة "آلونخو" عند شعب الياكوت (وهو شعب تركي الأصل) ينقل لنا صورة واضحة عن تسامح تلك الشعوب وخلو ثقافتها من العنصرية والعدوانية تجاه الآخر واتسام عاداتهم بالود وحسن الجوار.

    يفتح الكتاب أمام قارئه الأسس النفسانية الجمعية للقوميات الأصلية في الأراضي الآسيوية الشاسعة التابعة لروسيا. ويقودنا المؤلف الذي تراكمت لديه مواد تطبيقية قيّمة وخبرة عملية واسعة خلال الأعوام التي قضاها بين شعوب الياكوت والإنويت والخانتي والبوراتيين والتشوكتشي وغيرهم، يقودنا إلى عالمهم الإثني وتقاليد وأساليب حياتهم اليومية.
   إن العقائد والأخلاق والعلاقة بالطبيعة لتلك الشعوب تمثل علاقة دقيقة وراسخة بروح تارتاريا العظيمة كما كان الأوربيون في القرون الوسطى يسمون هذه المساحة الواقعة بين بحر قزوين وحتى المحيط الأطلسي وحدود الهند والصين. وبحسب الكاتب فإن ما دفعه على إجراء هذه الدراسة النفسية هو الكشف عن جوانب اجتماعية تتعلق بتلك الشعوب طالما ظلت خفية وغامضة على أفهامنا، فضلا عن أن تلك الشعوب نفسها لا تمتلك جوابا شافيا عن الأسباب التي تجعل من الوعي الجمعي لهذا الشعب يختلف عن الوعي الجمعي لشعب آخر مجاور له وقريب منه ثقافيا وتاريخيا. أما أسباب هذا الجهل بمعرفة سلوكيات تلك الشعوب فيكمن أولا في غياب دراسات سوسيولوجية معمقة وشاملة لها وثانيا لأن الشعوب نفسها لم تجتهد في معرفة وتبرير سلوكياتهم على أسس علمية. نرى مثلا أن شعب الإيفينك لم يجر أي تحليل لسلوكياته التي تجعله شعبا متفردا عن الشعوب المحيطة به فيما يتعلق بحيويته غير العادية وتكيفه مع مختلف ظروف الحياة وشجاعته التي يُضرب بها المثل بين الشعوب الأخرى التي سكنت أراضيهم واستقرت في جوارهم. والحقيقة أنهم اكتسبوا كل هذه الصفات خلال الفترة الزمنية عندما بنى أسلافهم في الشرق الأقصى دولتين كبيرتين: مملكة بالهاي في القرن الحادي عشر وامبراطورية جورشن الذهبية في القرن الثاني عشر. أو شعب الأغور الذين كان أسلافهم في أوائل العهد الجديد يجوبون المساحات الشاسعة من شمال التبت، حيث انطلقوا، إلى جبال الأورال: السلسلة الجبلية التي تفصل الجزء الآسيوي من روسيا الحديثة عن جزئها الأوروبي. فنرى أن شيئا لم يؤثر على عاداتهم وسلوكياتهم وظلوا محافظين على طبيعتهم ونمط حياتهم المتوارث وذلك باستثناء سمة التشدد التي أخذوها من البدو في السهوب التي انتقلوا إليها.
   
   يركز المؤلف على الملامح النفسية والسلوكية لشعوب سيبيريا التي تتميز عن سلوكيات الروس أو الأوروبيين بشكل عام. وإذ نتتبع سياق الباحث سنجد أن حجر الزاوية لسلوكيات تلك الشعوب يقوم على الاعتقاد القديم في أن كل شيء في العالم يمتلك روحا. "إن النينيتس المعاصر، مثله مثل جده البعيد، لن يبصق أو يتبول في الماء، لن يسيء إلى النار أو الريح ولن يضرب الأرض بعصاه. إنها عناصر مقدسة بالنسبة لفرد النينيتس" (ص: 58). ويؤكد الباحث صحة نظريته هذه بأحداث كان شاهدا عليها بنفسه. يقول: "لقد أثبت المانسي موقفهم التبجيلي تجاه الطبيعة خلال أحداث عام 1986 عندما تم إرسال أسطول الشحن السوفيتي إلى أراضيهم من أجل استخراج الحصى لمنصات النفط. في البداية حاول المانسي التفاوض مع السلطات، ثم اشتد الأمر بينهم إلى أن وصلت الأخبار إلى موسكو عن احتمال حدوث مواجهة. ومع ذلك تجاهلت السلطات طلب السكان المحليين بأن لا يلمسوا النهر أو يتحرشوا بالأسماك. ومع تعنت السلطات قطع الصيادون حبال ودهم ونزعوا خصلة الهدوء عنهم وتحولوا إلى جنود مستبسلين. لقد سدوا النهر بقواربهم ورفعوا السلاح وأجبروا مراكب السلطات على العودة من حيث جاءت" (ص: 29).

  ومثلما يرى المؤلف فالفرق الرئيسي بين طبيعة هذه الشعوب التي لا تزال تعيش حياتها التقليدية وشعوب الحضارة الغربية الحديثة يعود إلى عدم معرفتها بالخيانة والنفاق والجبن والحسد. يقول: "يعتبر الإينيتس أن الكذب هو أبشع الرذائل البشرية قاطبة. وحتى الأطفال عندهم لا يمكنهم أن يكذبوا، وإذا أراد أحدهم أن يداري شيئا فأقصى ما يلجأ إليه هو الصمت" (ص: 69). ولتعزيز رأيه يتناول لغات شعوب سيبيريا وأقصى الشمال حيث تنعكس فيها رؤيتهم للعالم المحيط. فعلى سبيل المثال لا توجد في لغة التشوكشي كلمة "سرقة" ولا مشتقاتها. وفي السنوات التي قضاها الباحث وسط تلك الشعوب، يعيش حياتهم ويراقب سلوكهم وأفعالهم، تبين له أنهم لا يعرفون شيئا عن مفهوم التفاخر وأخواته. يقول في وصفه الفكرة التي يعتقدها كل فرد من أفراد شعب خانتي عند لقائه بحيوان متوحش كالدب: "يتم ذلك دون إثارة عاطفية، بهدوء وبتقدير للحالة، ومن غير أي فخر وتفاخر. إن لسان حاله يقول: ليس هنالك ما يدعو للعجب، فها هو صياد يلتقي بدب حاول التصرف بوحشية ومن أن أجل إيقافه ومنعه من التعدي عليه، اضطر الصياد إلى إطلاق رصاصته التي تصيب هدفها بدقة" (ص: 32).

    وبسبب أسلوب حياتهم في ظل ظروف طبيعية صعبة يغدو من المستهجن لدى هذه الشعوب التمسك بالقيم المادية ومنها الاحتفاظ بأكوام الأشياء الزائدة. لذلك فقد هذبوا أنفسهم ودربوها على التقشف، فالأشياء الأكثر أهمية هي التي تكون في متناول اليد كالسلاح والملبس وأدوات الطهي ولا لزوم للاحتفاظ بأي شيء آخر. ويروي المؤلف عن دهشته عندما رآهم مرة يرمون خارج منازلهم بأشياء جديدة كل الجدة. وحينما شده الفضول لمعرفة دوافعهم وجد أن أحدهم رمى بثلاجته الجديدة لأنه لم يحتمل ضجيجها في بيته، وآخر تخلص من الأريكة لأنها لا تستحق المكان الكبير الذي شغلته وثالث كان متعبا من صوت التلفاز.  

   يشيد الباحث بطبيعة شعوب سيبيريا ويصفهم بأنهم قوم كادحون، مشيرا إلى أنهم دائما ما يكونون في مزاج جيد غير مضطرب، طلباتهم متواضعة وتتسم أحاديثهم بالاقتضاب. يقول: "عندما تراقب العلاقة بين الرجال والنساء في الأسر ترى أن الزوج والزوجة وأبناءهم وكذلك الجيل الأكبر سنا يفهمون بعضهم البعض من دون كلام. قليلا ما يتحدث بعضهم إلى بعض. وحتى الأطفال الصغار نادرا ما يتذمرون أو يبكون. والأطفال الأكبر سنا أيضا يفضلون اللعب في صمت" (ص: 28). ثمة ما يثير الاهتمام والفضول فيما يورده الباحث من أن الأطفال في قومية نغاناسان يولدون من غير أن يصدر منهم بكاء وإنما يئنون ويكحون وحسب. وفي هذا الصدد يدعو الباحث علماء النفس  لدراسة هذه الظاهرة وملاحظتها عن كثب. ومن الإشارات اللطيفة المتعلقة بطبيعة الأطفال في تلك البقاع الآسيوية، يذكر الكاتب أن أطفال نغاناسان يتحملون الألم ويكضمون شكواهم كما أنهم يسارعون في تعلم المشي من أجل المشاركة في مساعدة الكبار.

    وفي العهد السوفيتي عصف القلق بشعوب التايغا (التايغا هي اسم الغابات العظيمة في سيبيريا) على أطفالهم بسبب الإجراء الذي قامت به السلطات في توجيه الأطفال عنوة إلى مدارس داخلية بعيدة عن مواطنهم وذلك لندرة المدارس في التايغا ولتطبيق التعليم الإلزامي على أبناء البلد قاطبين. وكانت نظرتهم لتلك الخطوة أن الحضارة الحديثة تسعى لتدمير ثقافتهم وإفراغ نفوسهم من جوهرها، وبالتالي فإن التايغا نفسها ستفرغ منهم.  

   يخصص المؤلف فصلا كاملا لدور الدولة الروسية في تشكيل علاقات ودية بين الجماعات العرقية المختلفة في سيبيريا. وقد عكف المستكشفون الروس والصناعيون والباحثون بتمهيد الاتصال مع شعوب سيبيريا والسعي لوضع دراسات سيكلوجية وسيسلوجية معمقة سواء للمجموعات العرقية المعروفة أو غيرها من القبائل المتوزعة في تلك الأراضي الشاسعة. ويرى الباحث أن مثل هذه الدراسات تحمل قيمة هامة للاستقرار الاستراتيجي لتلك المنطقة الحدودية وضمان ارتباطها بروسيا. ومن الإجراءات التي أشار إليها الكاتب في هذا السياق، قيام السلطات الروسية بتوطين سكان روس جدد في مناطق سيبيريا والشرق الأقصى ذات الكثافة السكانية المنخفضة. ومن هذا المنطلق يمكن لهذا الكتاب أن يكون مرشدا لمن أراد الانتقال إلى تلك الأراضي وأحب الاتصال بالشعوب الأصلية وفهم طبيعة حياتهم، تلك الحياة التي قد تبدو خشنة من الخارج ولكنه صافية ونقية نقاء الطبيعة من الداخل.

 


الكتاب: النفسانية القومية لشعوب تارتاريا السابقة.
المؤلف: غيورغي سيدروف.
الناشر: دار نشر كونتسيبتوال/ موسكو 2018.
اللغة: الروسية.
عدد الصفحات: 176 صفحة.

*أكاديمية ومستعربة روسية

 

 

تعليق عبر الفيس بوك