تأثيرات الحضارة الإسلامية في الفنون التشكيلية الأوروبية


لقد كان المد الاستشراقي الحديث إرهاصا للمد الاستعماري للشرق، وفي الوقت الذي بدأ فيه  المستكشفون والمغامرون يطرقون أبواب القاهرة ودمشق والقيروان ويساهمون في صنع الفن الاستشراقي الحديث الذي أعطانا نحن العرب صورة واضحة لما كانت عليه حواضرنا العربية، صورة لم نكن نحن قادرين على تخيلها بما كانت عليه لولا ما أنتجته وأبدعته أنامل المستشرقين الرواد، بغض النظر عن نظرية المؤامرة التي تصورهم كطلائع للهيمنة الغربية.
وفي هذا الإطار وقع بعض (الرحّالةُ والكُتَّاب الغربيين) أسرى للشرق ومنهم المسافر الكبير اللورد بايرون (1788-1824) الذي زار مصر وألبانيا واليونان والإمبراطورية العثمانية فكتب (جياوور، وعروس أبيدوس، والقرصان، ولارا) أما فيكتور هجو فكتب "المشرقيات – 1829"، بينما اكتشف جوته الشعر الفارسي من خلال أشعار حافظ الشيرازي فألَّف ديوانه الأخير "الديوان الغربي الشرقي – 1827". أما فيما بعد فقد جاء تيوفيل جوتيي وكتب روايته الموسومة بـ(المومياء – 1875).
ويعتبر أدب الرحلة نوعا أدبيا ناجحا افتتح على يد ألكسندر دي لابورد (1806-1820) بكتابه الموسوم "الرحلة الرائعة والتاريخية لإسبانيا". من بعد ذلك جاء عدد من الرحالة الأثرياء من أمثال جيرو دو برانيي (1804 – 1892)، والكونت فوربين (1777-1841). هذا وقد أسهم اختراع الطباعة الحجرية عام 1796 في تشجيع نشر الكتب الفاخرة والمدعمة بالصور، بينما ساهمت مجلات كـ(المجلة الخلابة)، و(دورة حول العالم)، و(الصحيفة الجديدة للأسفار) (1860) في نشر هذه الصيغة الوصفية بالاعتماد على العديد من المستشرقين، ولا غرو أن نجد نصوصا ذات طابع أدبي أنتجها لامارتين "رحلة إلى الشرق" 1805 وشاتوبريان وفلوبير وماكسيم دي كون. أما الفنانون فهناك أوجين فرومنتان (1820 – 1876) الذي يعد أحد أهم المستشرقين في القرن التاسع عشر من حيث إنه زاوج بين مهمتين: الكتابة والرسم، فلقد اشتهر عام (1857) حينما أصدر كتابه (صيف الصحراء)، وبعدها كتابه (عام في الساحل) عام 1859م.
وتقول الدكتورة إيناس حسني مؤلفة كتاب (الاستشراق وسحر حضارة الشرق 2012): "الاستشراق نشاط يقوم به فرد أو مجموعة أفراد من غير الشرقيين، غايته البحث والدراسة المتخصصة في الشرق بجميع جوانبه، ومن محور هذا الاحتكاك أصبحت الدراسات المتعلقة بالفنون الشرقية وإبداعات الفنانين المتأثرة بالشرق جزءا من مظلة هذا النشاط وفرعا من تخصصاته.
ولذلك تعتبر ظاهرة الاستشراق في الفن ذات ضرورة للبحث والنقد حيث إنها قديمة في رحلتها متنوعة في أشكالها فعالة التأثير في نتاجها الفني حيث نلاحظ ما طبعته ومختلف الفنون الإسلامية وبخاصة العمارة الشرقية على الحضارة الأوربية فقد اقتبس الأوروبيون كثيرا من المعالم الفنية وأساليب الحياة الشرقية وانعكس ذلك على إيقاع حياتهم وترجم الكثير من المصورين الأوروبيين هذا التأثر في أعمالهم فطالعتنا لوحات جنتيلي بليني ورامبرانت وليوناردو دافنشي على سبيل المثال بهذه الصورة الاستشراقية،  وبلغ هذا التأثر مداه خلال اقتباس عملاق الأدب الأوروبي "دانتي" في ملحمته "الكوميديا الإلهية" كثيرا من أفكار الإسراء والمعراج لأبي العلاء المعري في قالبها الأدبي والفني.
إن كتاب "الاستشراق وسحر حضارة الشرق" للدكتورة إيناس حسني في أصله دراسة أكاديمية تقوم على محورين: أحدهما فني دو محور رأسي يتتبع خلالها تطور الشكل الفني في التصوير من حيث أسلوب التعبير وطريقة الأداء بامتداد ظاهرة الاستشراق، أما المحور الآخر فيناقش الجوانب المؤثرة والمرتبطة بالإنتاج الفني، وهي تتعلق بالجانب السياسي والاجتماعي والبيئي والعلمي وعلم الآثار.
وتلفت الباحثة هنا النظر إلى ضرورة التفرقة في (المفهوم الفني الاصطلاحي) بين معنيين، الأول منهما يقصد به "الفنون الشرقية"، وهي إبداعات ونتاجات فناني الشرق أنفسهم، أو نتاج حضارتهم الشرقية المتعاقبة على مرّ العصور، أما المعنى الثاني فيقصد به "الفن الاستشراقي"، أو "الاستشراق في الفن" الذي يختص به المستشرقون أو المستعربون سواء بإنتاجهم الفني أو بدراستهم المتعلقة بذلك الإنتاج المرتبط في الوقت نفسه بالفنون الشرقية، كدراسات تاريخ الفن، أو علم الجمال، وعلم الآثار.. إلخ من الدراسات المتعلقة بالفن.
ومن أهم ملامح المؤثرات الفنية الإسلامية في التصوير الأوروبي فن المخطوطات المسيحية المصورة وهي تمثل الفن المسيحي اللاتيني حيث تخللت عناصر تصوير هذه المحطوطات بعض الزخارف الإسلامية التي انتقلت بفعل المستعربين في إسبانيا أثناء العصور الوسطى، وظهور مدرسة تصوير البندقة في القرن التاسع عشر ومن روادها جنتيلي بليني فينعكس من خلالها طابع الفن الإسلامي الذي بدا في الأشكال المعمارية من قباب ومآذن ومشربيات، كما ظهرت في بعض لوحات المصورين الأوربيين في عصر النهضة وفي العصور التالية مناظر من الطبيعة العربية، والكتابة الكوفية في كنائس "بيزا" و"الفاتيكان" و"أسيز" و"بادو" و"سيينا" كما تزدان بها متاحف فلورانس وبرلين واللوفر وبوسطن.
لقد تمثلت المؤثرات الشرقية في التصوير الأوروبي تباعا منذ العصر الإغريقي والهيليني والروماني والبيزنطي والرومانسكي والقوطي حتى العصر الحديث. وقد تشكلت هذه المؤثرات في كل مرحلة حسب ظروف العصر الفنية، وتخطت حدود الصراع الأزلي بين الشرق والغرب بسبب وحدة الأسس التي قامت عليها فنون الغرب المسيحية والفن الشرقي الإسلامي المتمثلة في الأسس الفنية الهيلينية والقبطية والبيزنطية. وكانت المؤثرات الشرقية على فن التصوير سببا في ظهور الاتجاه التلويني في فينيسيا التي نشرت هذه النزعة عبر التاريخ وحتى العصر الحديث.
وتميزت الوحدات الشرقية في تصوير العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية بالتزيينية حيث اهتم الفنانون باستعارة أجزاء من الوحدات الزخرفية الإسلامية ذات البعدين من منطلق تزييني بحت وقد عكس هذا نزوع الفنان الغربي من أجل إضفاء الحيوية على اللوحة المصورة، كما كانت الألوان البراقة القوية في لوحات المستشرقين امتدادا طبيعيا لتأثرهم بالاتجاه التلويني الذي بدأ في مدينية فينيسيا والتي كانت أكثر تأثرا بالشرق.
وفي الأخير يمكننا القول بأن لوحات المستشرقين تميزت بجملة من الخصائص الفنية المتطورة حيث كفل الشرق لهم نبعا حقيقيا حيا، فتميزت لوحاتهم بألوانها التعبيرية القوية وحطوطها المتناغمة الأرابيسكية وشعَّت بضوء الشمس الذي كان مساهما في ظهور المدرسة التأثيرية.

 

تعليق عبر الفيس بوك