تجريبٌ في لزوم ما لا يلزم


د. يوسف حطّيني| فلسطين

(1)اللّزوميّة الأولى:
يا قطارَ النَّوى وصلتَ زَفيفا
ما الّذي ضَرّ لو أتيتَ دَفيفا؟
//
كنتُ أرعى النّباتَ غضّاً طرّياً
في حقولٍ غدتْ يبيساً قفيفا
//
هزّ قلبي الخريفُ حتّى كأنّي
 أسمعُ الخفقَ في الضُّلوع حَفيفا
//
وكذا أثقلَ البعادُ فؤادي
ولقد كانَ ذاتَ عشقٍ خفيفا
//
أترُى تذكُرُ الغرامَ بصيراً
حينَ كانَ الزّمانُ عنّا كفيفا؟
//
والرّزايا غوافلٌ عن هَوانا
وجناحُ المنى يرفُّ رفيفا
//
وغيومُ الرّبيعِ تحجبُ شمساً
فيطلُّ الشُّعاعُ عذباً شَفيفا
//
إيه يا دهرُ.. فَرْحُنا كان جَمّاً
لم يَدَعْ في القلوبِ جرحاً طفيفا
//
ليتنا لم نَعِفَّ عن مشتهانا
ربّما يظلمُ الزّمانُ العفيفا
//
أينّ تلكَ الأيّامُ والنّاسُ شَتّى
بينما نحنُ قد جُمِعْنا لفيفا؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ       
هوامش:
الزّفيف: سرعة المشي في النّاس وغيرهم.
الدّفيف: السّير اللّيّن.
القفيف: ما يبس من النّبات.
***

(2) اللّزوميّة الثّانية:
تخيّرتُ مِنْ أحلى الطّيورِ يَمامَها
ومِنْ جنّةِ الأقمارِ حُزْتُ تَمامَها
//
وما أنا إلا شاعرٌ أعزفُ الهَوى
وأكشفُ عن عذْبِ الزُّهورِ كِمامَها
//
وأبصِرُ خَلْفَ السِّتْرِ سِحْرَ مفاتنٍ
وأحدُسُ غيثاً إنْ رَأيتُ غَمَامَها
//
أنا شاعرٌ لا يبرَحُ الشِّعْرُ سَاحتي
لأنّ القوافي أسلمَتني زِمَامَها
//
فلستُ أناديها فأجري وراءَها
ولكنْ تناديني فأجري أمامَها
//
وتتبعني في كلِّ وقتٍ مطيعةً
فقد صِرتُ في فرضِ الصّلاةِ إمامَها
//
ولي في فؤادي مِنْ فلسطينَ غصةٌ
فقد صرَعَتْ صهيونُ فيها حَمَامَها
//
وأذكتْ سيوفَ القتلِ في كلِّ موضعٍ
وأدمَتْ حواشيها وأشقتْ هُمامَها
//
ولله عهدٌ أن نظلّ على الوَفا
 لنَطرُدَ عن أرضِ السَّلامِ حِمامَها
//
هي الأرضُ والتّاريخُ والعِرضُ والرّجا
ويعلمُ ربّي ما خفرْنا ذِمَامَها
  ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ  
هامش:     
الكِمام: جمع كُمّ، وكُمًّ الزهرة وعاؤها.
***

(3) اللّزوميّة الثّالثة:
عشتُ في غابةِ الهَوى هَبّالَهْ
والعَذارَى مغارمي والهِبالَهْ
//
ذُقتُ شَهْدَ الوِصَال رغْداً وريفاً
 والهوى كنت في الغضا رئبالَهْ
//
ثم فلَّ الغزالُ سيفي ونابي
فسقاني الردّى، وذقتُ وَبالَهْ
//
يا غزالاً اًمَضَّ قلبيَ هجراً
 تاركاً فيهِ مسَّهُ وخِبَاله
//
منه حُزْتُ الضّياءَ؛ إذ راح يذكي
في فُؤادي من الغرامِ ذُبالَهْ
//
فأحالَ الظّلام نوراً وأثرى
وطنَ  العشقِ سهلَهُ وجبالَهْ
//
مثلَ طيفٍ مرّت سعادةُ قلبي
إذ جفاه من بعدما قد صبا لهْ
//
لم يكن سهمُهُ الوحيدَ ولكنْ
 جاء يحكي ضِغثاً على إبّالهْ
//
كيف أحيا بغيرِ سهمٍ نبيلٍ
بعد أن أدمنتْ جراحي نِبَالَهْ
//
هانئَ البالِ كنتُ قبلَ غزالي
 فعسى اللهُ فيَّ يشغلُ بالَهْ
 ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ       
هامش:
الهبّالة: الصّياد يهتبل الفرصة؛ لينال من طريدته.
الهِبالة: الغنيمة.
الغضا: مجتمَع الشّجر الكثيف.
الرئبال: الأسد.
وبالُ الأمر: شدّته وثقلُه.
الخبال: المسّ.
الذّبالة: فتيل السّراج.
الإبَّالة‏:‏ الحُزْمَة من الحَطَب، والضِّغْث‏:‏ قَبْضَةٌ من حشيش مختلطة الرّطب، باليابس، وضغث على إبالة: أي مصيبة فوق أخرى.
***

(4) اللّزوميّة الرّابعة:
أحبُّ بلادي سَهْلَهَا وكَديدَها
 ولستُ أرى في الأرضِ طُرّاً نديدَها
//
وأعشقُ عكّا والخليلَ وغزّتي
وأمنحُ عمري إنْ لثمتُ جديدَها
//
ويعشقُني مسرى النبيّ وقدسُهُ
وهل تعشَقُ الأوطانُ إلا وديدَها؟
//
وتنزفُ أعطافُ القصائدِ من دمي
لكي يسمعَ المحتلُّ دوماً رديدَها
//
وأحلم أن ألقى المنية قربَها
بُحَيْرةِ عشقي كي أكونَ حديدَها
//
لقد أمعنتْ صهيونُ فيها توحّشاً
وبانت أفاعيها ففحّتْ صديدَها
//
وهَتّكتِ الأعراضَ في كلّ بلدةٍ
ولم تُبْقِ للخنساءِ إلا قديدَها
//
أرى في رجالَ العُرْب ضعفاً وإنّما
ستنجبُ في فجرِ الرّجاءِ شديدَها
//
وتزهرُ أجيالاً تضحّي وتفتدي
 وترسلُ نحوَ الزّاهراتِ أديدَها:
//
سنأتيك بالبشرى فلسطينُ إنّنا
كتائبُ لا يُحصِي العدوُّ عديدَها
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
الكديد: ما غلظَ من الأرض.
نديد المرء: نظيره.
جديد الأرض: وجهها.
الوديد: الحبيب.
حديدُ المرء: جارُه.
القديد: الثّوب الخلق.
الأديدُ: الجلبة.
***

(5) اللّزوميّة الخامسة:
جُبْتُ الدُّروبَ ذهابَها وإيابَها
ورتقْتُ مِنْ رَثِّ الحياة ثيابَها
//
غدرتْ بيَ الدُّنيا فما أبصَرْتني
يوماً مُهادنَها ولا هَيّابَها
//
حضرَتْ فما فَرِحَ الفُؤادُ بها، ولا
كسرتْ قيادي إذ خَبِرْتُ غيابَها
//
هذي اللئيمةُ أكرمَتْ أشرارها
في الحادثاتِ وحاربَتْ صُيّابَها
//
ولقدْ تعوّدتُ الأسى فيها؛ لذا
 أغْشى الأسَى متجنّباً أطيابّها
//
لكنّني في الحقّ لُمْ أكُ خانِعاً
ونزعْتُ من أُسُدِ الشَّرى أنيابَها
//
وكشفتُ عن جِلْدِ الثَّعالبِ فَرْوَهَا
وفضحْتُ في وَضَح القصيدِ ذِيَابَها
//
وسترتُ خائنةَ العيون إذا اختشتْ
حاشى لمثلي أن يبيحَ عِيَابَها
//
أنا شاعرٌ يهوى القريضَ، وليس لي
ساحُ المعارِكِ كي أكون جِيَابَها
//
تلقى ظلالَ الشّنفَرى بقصيدتي
والحُرَّ إن تَطْلبْ تجدْ سَيّابَها
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
الصُيّاب: خِيار النّاس.
جياب: القائد الفيتناميّ المعروف.
السيّاب: الشّاعر العراقي المعروف.
***
          

(6) اللّزوميّة السّادسة:
يروي السّامرُ آلامَهما
من ذا يُنكر أحلامَهُما؟
//
عاشا في فقْرٍ لم يجدا
بيتاً يستُرُ آلامَهُما
//
مادّخرا جهْداً ليعيشا
والحظُّ خزا أزلامَهُما
//
كتبا بالحُبِّ ولمْ يَرَيَا
قدَراً يكسِرُ أقلامَهُما
//
حتى إنْ ماتا في سَدَفٍ
نشرا في الأرض ظلامَهُما
//
فإذا أبصرتَ أسىً يَمشي
فلقد أبصرتَ غلامَهُما
//
يحيا في عتمةِ مقبرةٍ
تلمٌ يحرسُ أتلامَهُما
//
يا جاعلَ معجزتي كَلِماً
هل أتناسى إبلامَهُما
//
أم أجعلُ من كَلِمِي عَلَماً
حتى يُصبِحَ إعلامَهُما
//
عن قِصَّةِ ذالٍ موجَعةٍ
قامَت لتُعانِقَ لامَهُما
 ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش:
الأزلام: السّهام التي استقسم بها الجاهليون.
التِّلمُ: الغلام.
والأتلام: الأخاديد، والمقصود هنا جراح الدهر.
الإبلام: السّكوت.
قصة الذّال واللّام: قصة الذّل.

 

تعليق عبر الفيس بوك