رعب كازا بلانكا وإجهاضها للأحلام: رواية إسماعيل غزالي أنموذجا


                                                                                                                 الشريف أيت البشير.
(ثلاثة أيام في كازا بلانكا) "الموت وحده الأكثر وحدة". سليم بركات.
     تنساب رواية إسماعيل غزالي (ثلاثة أيام في كازا بلانكا)، قراءة، وهي آخذة في توريط المتلقي، ودون وعي منه، في تمرير هندستها السردية التي تشير إلى "البنينة" كتراكب نصي.. يجعل الكتابة هنا تنفرز كالفلزّ من بعضها.. وذلك لأن رواية (ثلاثة أيام في كازا بلانكا) تخرج من معطف رواية ( سفينة نوح الأفريقي) وتنشأ عنها سردا وتخييلا، رواية منتسبة للمدعو ماثيو إكس وايت.. فيها نوع من التضعيف في تفضيء الرواية الأولى أحداثا وحبكة... وكما في هاجس البحث عن موضوعين قيميين يختلفان ليذهب كل منهما إلى خصوصيته دون أن ينغلق على تجربة واحدة، ليتطابقا ويتقاطعا عند حدود الهواجس والتصورات من خلال المصير المشترك بين شخصياتهما، كأن رواية (سفينة نوح الأفريقي) بمثابة المرآة العاكسة لصورة رواية (ثلاثة أيام في كازا بلانكا) وذلك للإيهام بأن هذه الرواية لها حظّها من مرجعية الواقع، ورواية ماثيو إكس وايت لها حظّها من الخيال.. في الوقت الذي لا يتعلق الأمر سوى بعملية تضعيف للخيال، كحالة من الاختلاق الشبيهة باختلاقات أميغو الأرجنتين وبنيناته العجائبية.. كما يؤكدها إسماعيل غزالي في انتساج الإحالة كهامش وفق رمز (نجمة) بالصفحة 12، إحالة قد ينجرّ عبرها ذاك الإرث الإنساني لا بدّ أن يكون للجاحظ نصيبه فيه على مستوى البذل والتخييل حسب سرود بورخيس.
       بذلك، فإن رواية المغربي، إسماعيل غزالي هذه (1) تنطلق، ومنذ البداية، من الوعي المرجعي بأن الكتابة تخضع لهندسة وقصدية صارمتين... كتابة هي سليلة ما سبق (2) من حيث استشكال الموضوعات وجعلها متخللة بالتعريفات كنظرة خاصة إلى الوجود تضخّ مزيدا من الحسّ العلمي في رأسمالها، نظرة تحتفر مساقها السردي إلى جانب العاهلين بالسرد في نزعته الإنسانية.. حينما تنبثق الجغرافيات غير المحددة من ارتهانها إلى معنى الحضور الهايدغري، ومعنى اللانهائي البورخي..
    هكذا تبدأ رواية (ثلاثة أيام في كازا بلانكا) بصوت الراوي وهو يقدم الشخصية المفتتح، والتي تأخذ نصيبها الوافر من بنية السرد كبؤرة، حين يتمّ ذلك في "التقديم" بصيغة المذكّر الغائب، أي بالحكاية عنه، مما يجعل موحى الطنجاوي متحكّما صوتا فيه كرؤية سردية لا تجعله مشاركا في صناعة الحدث، كما يبدو للوهلة الأولى.. وهو انطباع مؤقّت يجد حيرته الكبيرة في جعل الشخصية المسرّدة بين المتخيّل والواقعي.. وحيث الاستصحاب الممتد في القراءة لحالة من الوهم تجعل التسليم ضروريا أن موحى الطنجاوي بقدر ما هو متخيّل هو واقعي، وبقدر ما هو واقعي هو متخيّل.. وبين هذين الحدّين يخضع لانبثاقه ويمتثل لتجلّيه النّصّيّ، ليكون هو كل العمل الأدبي مادام عدّ مفرغا في رواية (مثلّث تانيت).. بها يكتب إسماعيل غزالي من داخل الكتابة، كتابة تنبثق من الكتابة، هي كتابة التطريس.. حيث تسجيل النسيان المتبقّى من أثر الذاكرة.. يرتبط الأول ببول باولز، حينما جعله بمثابة الشخصية التاسعة، الشخصية المغمورة من بين حوارييه في طنجة على غرار حواريي المسيح المتحلّقين معه حول مائدة العشاء الأخير، وحيث يوجد محمد شكري ومحمد المرابط.. على رأسهم باعتبارهما الأكثر شهرة.. ويرتبط الثاني بفوزية التي يحتمل أن تكون كاتبة رواية ـ"مثلّث تانيت" ذات عنوان اسمه يحفر عميقا في مرجعية الثقافة الثيولوجية الأمازيغية.. لتكون تانيث إحدى الرّبّات ـ الإلهات الأمازيغيات. وأن اسم موحى الطنجاوي أو ماثيو إكس وايت حالة متداخلة تحقق التناسب في الاسمين والتداخل بينهما حيث رشاقة التوظيف الإيتيمولوجي لتسهيل عملية القلب أو العبور في (ماثيو) إلى موحى من جهة، وإلى متّى من جهة ثانية. إنه لا يعدو أن يكون سوى اسم مستعار، حسب الحقيقة التي يكشف عنها القارئ الذّكيّ في الرواية.. الذكاء الحاد الممهور بحس بوليسي، لإدغار ألان بو أثره دامغ فيه. معرفته فاضحة تتشكل في الفصل السادس والثلاثين: (أربعون شامة) منقادة بحالة من الوعي بالجسد الموقّعة هويته بعدد الشامات الأربعين تسعف ميّاس في الانتقال الرشيق بين الحلم والحقيقة.. بين واقعية الوجود لموحى الطنجاوي وبين حضوره في متخيّل الرواية هو هبة الأفكار المستهامة لفوزية.
     ينفلت موحى الطنجاوي المسرّد من قبل الراوي، كما هو أمر مستهل الرواية، من ربقة السرد، أي من ظله حيث حالة الغياب في الصيغة تجعله يجنح نحو وضوحه في ذاك الاجتراح الأونطولوجي الذي يفجّره السؤال، سؤال يصبح معه الوجود في حوزته، نقصد بذلك: "أكان على المشرب أن يسمّى بباب الصحراء؟". ص7. ليس ذلك وحسب، بل إن الغياب سرعان ما يتمّ التشكيك فيه بزحزحته لصالح الحضور؛ أولا بواسطة السؤال، كما سبق، وثانيا بالإعلان الصريح عن الاسمية، لكونه يحمل اسما محددا..
     معلوم، إذن، أن قدمي موحى أو ماثيو تجسّان الأرضية المنتسبة إلى باب الصحراء كمكان محتو لأخر محتوى هو المشرب أو الحانة.. حالة من تحصيل حاصل، تجعل البديهي رمادا مسكونا بالجمر القابل للاتقاد وبعث الشرارة في جوف التنور من جديد.. تخلّق واستواء يتعلقان بالسؤال الحاد بين عناصر الوجود وأشيائه وبين الأسماء الملتصقة به.. في البحث المنذور للسيميائيات وفي البحث عن العلاقة بين الدال والمدلول في تأسيس العلامة، لتنشأ علائق متعددة منها الاعتباطي والطبيعي والثقافي، أقصاها حالات الأثر المعلّلة.. هكذا تتم قراءة الوجود سيميائيا في رواية (ثلاثة أيام في كازا بلانكا)؛ حين تصبح كل حالة بمثابة العلامة المعلّلة، كما يرتئيها أومبرطو إيكو.. علامات تتجلّلها الآثار والمرجعيات النفسية في الصلة بين الدوال والمدلولات.. وحيث الأمواج والألوان تجود بها أرخبيلات الوجوه وتغضّناتها وهي تعصف بالأرق والقلق وتعصرهما، وهذه العثرات الأونطولوجية للنفس في انطوائها الرؤوم على أفكار الانسحاق والإحساس الهادر بالدياسبورا كان سببها حالة الاغتراب المتفاقمة. ص 98. وحيث القراءة النفسية المشبعة بفكّ رمزية التسنينات لا تتجاوز التحليل النفسي في قراءة العلامات إلا من باب تضمينها والاتكاء المؤقّت عليها في سبيل إنجاز الحالة التروبادورية على فراسخ خارطة الأفكار والمعارف.
     وإذا كان هذا بالنسبة إلى المفتتح، فإن نهاية الرواية، خصوصا في جملة الختم لا تقلّ لغزية.. واستنفارا لحاسّة الإدراك والبحث عن معنى، حينما جعلها الروائي مشرعة على هباء التكوين الأنثوي في انتظام عناصر الوجود بواسطة الحدس: "شعرت بنفسها كما لو كانت مستلقية تحت زهرة نوار الشمس". ص 238. جملة متبوعة بما يوضّحها ويدور في فلكها الدلالي.. حالة مفضية إلى الإحساس بالنفس من قبل الشخصية المسرّدة؛ زليخة المحتضرة جراء اختراق رصاصة صدرها وهي في صحراء نيجريا على تخوم الكاميرون. ص. ن. زليخة هذه تعتبر زوجة موحى الطنجاوي أو طليقته، يتعقّبها في الصحراء الأفريقية مستجيبا لندائها المستغيث، وحيث هنا في جملتها نوع من الإحالة المبطّنة والثاوية على السؤال المجترح في البداية فيما يتعلق بجدوى مطابقة الإطلاق الاسمي للمكان.. أي بجدوى مطابقة الدال للمدلول.. علما أن المشرب، في لاوعي الجملة، هو بمثابة النقيض الجذري للصحراء، ما داما معا يحققان تناقضا يؤسس لطباق يجعل أحدهما بمثابة الأثر لسيمولاكر يستدعيه ويستلزمه؛ وكأن إدراك حقيقة الصحراء كاجتفاف، كحرّ وقيظ.. يتسبّب في خلق كثير من الوهم: عدّ سرابا. كما يخلق عطشا يستلزم البحث عن "ماء"، أي عن شراب في محفّزاته المخلوط بها، حتما لا يفضي إلى الرواء وإنما إلى الرغبة في الارتواء المسكونة بالعطش.. هكذا كانت أحقاب المجاطي تظمأ في شربه.. ثم أليست تلك حالة الأنثى كثنية دولوزية ـ نسبة إلى جيل دولوز ـ؟. إنها رواء يخفي عطشا.. ولفهم هذه الحقيقة في الشراب جعله يرتبط بالصحراء، أو فهمها في المرأة كصحراء لا محدودة في الافتتان، فلجسد المرأة أرخبيلاته البليغة وعلاماته ذات الجبروت الكاسح، نداءاته هنا تكون باتّجاه شاب البيتزا روحه كسيحة لأنها مفعمة بكل أنواع الإخفاقات، ظلت تحمل الوعد الجميل إلى الغد وتحلم بتحقيق النصر، النصر المنعطف نحو اللعب، عبره يتمّ "تصعيد" تعويض الحرمان المتفاقم سيكولوجيا، من خلال لعبة اللوطو في قوة احتمالاتها المنزوعة من أرقام الشقق الطالبة للبيتزا، سبل متعددة في الذهاب إلى الأمل احتمالا، لكن ذات نهاية واحدة، أي أن لا نهائية الفرح كانت تقود إلى الحتف الأخير، فرح كان بمثابة سراب الصحراء. لذا، ومرة أخرى: " أكان على المشرب أن يسمى هو الآخر بباب الصحراء؟".
     هكذا يبدو السارد عارفا بما جريات السرد وأحداثه، وضع له أهميته في رشاقة التوظيف؛ إنه يعرف حاله ومآله ويتحكّم في مساراته.. حتى بدت الشخصيات متحركة وفق عين المخرج في العمل السينمائي.. ليبدو الأثر الإبداعي هنا كأنه مدبّر بواسطة عين الكاميرمان، مرجعية جمالية موهوبة في رواية إسماعيل غزالي.. حين يتمّ إشباع تلك الحركات بغنى ملحوظ في الوصف المتحرك والدينامي، يكاد يكون خارج الإطار على عادة ماغريت في وعيه الجمالي حسب مفهوم "الاستهراب"؛ تناول له اقتداره في وصف المكان المحكوم بالتحول والرغبة في الانفلات، أحيانا تكون التقنية ذاتها بمثابة الأثر لحكم قيمة يصدر عن الشيء ممهورا بحسّ ساخر: "يكفي التلصّص على السكرتيرة مثلا، والذهاب في ما وراء ثرثراتها اليومية على الهاتف، لتعرف بأن كازا بلانكا أخرى لا يمكن الحديث عنها إلا خارج الكادر". ص180 ... دوالّ، إذن، لها حظّها المشرع والمفتوح للانتباه كحالة غروتيسكية متطلّبة.. مثلا، اختيار الإقامة المؤقّتة على الكونطوار بالحانة.. أكسسوارات الشخصيتين؛ موحى والأشعث /عدنان، مدير مؤسسة (غاليرهات أطلنتيك).. القامة الفارهة التي تجعله يبين في الزحام، الضحكة المجلجلة.. بذلك تندسّ في العمل الرؤية السينمائية المبنية على منطق اللقطة لتجعل المونتاج مسنّنا، كما يمكن الانتباه إلى اعتماد الرؤية المتعددة، تهب العين حقولا بصرية متكاثرة وفي الآن نفسه، حيث التواصل الحديث بواسطة التكنولوجيا كهبة بطعم متاهي.. بطعم الدوائر التي لا تفضي إلى شيء، حالة من اللانهائي في دورانه.. متاهة لانهائية بطعم ميتافيزيقي ونيتشوي في الآن نفسه لترجمة حيرة الإنسان وقلقه الوجودي، حيث المعاناة من اغتراب حادّ؛ حين يكون الإنسان على صلة بالآخر دون أن يكون سكنا له، هو جحيمه.. وحيث المدينة صحراء كتلك التي قصدها موحى الطنجاوي ليلقى فيها حتفه، وحيث أيضا القتل المتبادل بين المقيمين بالبيضاء، باعتبارها صحراء، باعتبارها يبابا من نوع خاص يجعل الاغتراب بها مضاعفا مقارنة بتيه الصحراء الحقيقية وضياعها.. فبالمدن كالبيضاء أو البيداء، حسب توصيف الشاعر المغربي إدريس الملياني، لاوجود فيها لدفء يذوّب صقيع اليومي الناتج عن الملل والروتين في المستعاد والمكرور ورّث في الأنفس نوعا من "البلادة" كانت سليلة اللامبالاة وسليلة ذاك الحضور المفعم بالخواء، وحيث النمو الديموغرافي المتكاثر "يقزّم" الإنسان و "يخرتته" ـ حسب خراتيت يونسكو ـ أو حتى "يفرفره" ـ حسب فرافير يوسف إدريس ـ، حالة مضاعفة حتما بعلوّ العمارات، سمّيت نكاية في السماء بناطحاتها، المدن الكبيرة طاحونة حقيقية للإنسان.. فها هو عمران، مثلا، يهاتف مراد، وهذا الأخير يهاتف الهندي صاحب الكاميونيت الصفراء.. وهكذا، سلسلة من النداءات/ الاتصالات المفتوحة على الهباء، لكن إسماعيل غزالي يربّي الأمل في التكنولوجيا عبر إلباسها روحا إنسانية مفعمة بنبض شاعري جارف.. حينما يجعل كل شخصية تكتسب منها إحدى صفاتها المترجمة لرؤيتها إلى الوجود ولهويتها ذات نزوع فني.. وكأن كل رنّة إلا وتعدّ عنصرا موسيقيا له صعوده الحالم في سلّم سيمفونية تغني الحلم والأسى معا (3)، إن اتصالات الشخصيات فيما بينها لا تنغلق، منجزة لدمار نفسي بطعم التخوم الكارثي على إيقاع السقوط المدوّي لبناية نزل لينكولن أودت في تظافرها مع عجلات سيارة مجنونة بحياة الأفريقي الأسود: بيكيلا. إنها، مرة أخرى، حالة مسخّرة من إمكانات التقنية المعاصرة كهبة تكنولوجية تمكّن من الرؤية إلى أكثر من شخصية في مشهدية واحدة، كما يؤكده المقطع التالي:
     "كانت البدينة زهيرة تخاطب على الطرف الآخر فتاة فارعة الطول، تجلس في مكتب شركة "ميدوزا للإنتاج" التي يسعها الطابق السابع للعمارة الشهيرة باسم "مرفأ الوقواق". ص 46.
     ليس استدعاء نعت (البدينة) هنا من باب الذم، بل بالعكس سيعمل الروائي على منح البدانة حيّزا من المديح، فيه نوع من الزحزحة للذوق كي ينتقل من العام، من ذوق الدوكسا المتسرّع في أحكامه لسطحيته، إلى تلك اليقظة الخاصة للروح المتطلبة في حضرة الجسد الأنثوي. وحيث ضرورة الانتباه إلى الجمال باعتباره حالة ممعنة في النسبية على مستوى الذوق، وحيث الإمكانات الجمالية الأنثوية تكون على علّاتها، أي حسب حصّتها من ذلك، تجعل من "الجميلات هنّ الجميلات"، في التوصيف الشعري لمحمود درويش كتعريف باذخ في إحساسه بالأنثوية المحيل على الاستبطان المبني على المعرفة الحدسية ذات الرأسمال الفائض رقّة وهشاشة، يقول الراوي:
   " البدانة ليست دائما ترهّلا، وشيئا فائضا عن الحدود، البدانة أيضا قد تتفرّد بتناسق جمالي نادر، وهذا ما يشعّ به امتلاء زهيرة العجيب". ص 61.
    وعليه، فإن إسماعيل غزالي يستقرئ أحوال النفس وانعطافاتها.. كما يكشف "ثنياتها" مقتفيا آثار الغموض والالتباس ومفسّرا أبعادها الرمزية؛ كما هي حال القبلة المسروقة والمتسرّعة من المثيل وله، كانت قد أربكت القلب وأخذته من شغافه حيث اشتداد النبض يتلف الخطو في الموازاة الرمزية لأعطاب الوقت، هي حتما أعطاب الروح، كما في ساعة برج الساحة المعطلة. ص 94. أسلوب في الكتابة ذات النسغ البوليسيمي، معها يصبح المغيب رمزا لدم البكارة، أو لدم المنتحرة المراهقة، أو لدم الطرائد الملتذّ بها عبر تلك الإبادة الوحشية.. وإنه الدم، الدم العاهل بقلق الحقول الخافقة رايات حمرا في (العيون الجافّة) لنرجس النجار.
        يتعلق الأمر تحديدا بحالة العشق الملتبسة بين إيناس وميادة، حيث ذاك التواطؤ اللذيذ والهامس في لاوعي الجسدين المقموعين طابوهات.. ذلك أن القبلة المفتتح والمسروقة تقود إلى الجحيم، حيث التعبير عن الرغبة المحمومة في المثيل.. والتي يتمّ تسييجها بالرقيب الديني حين تعلن إيناس محرّضة: "يا ميادة لقد جئت شيئا فريّا". ص94. وفي الإعلان الناجز عن الموقف، يعلّق الراوي: "جاءها الصوت المرتّل من قعر ظلمة قاتمة في داخلها". ص. ن.
    وكما يوظّف إسماعيل غزالي، مضمّنا، الأسلوب الديني، فإنه يوظف، وفي سريّة وإحكام تضمينين تامّين، ما يجعلاه مدينا في مرجعيته الكتابية للآباء الرمزيين والأفذاذ.. في ريبيرتوار الإبداع الإنساني؛ توظيف هو بمثابة الهسيس لأوراق الشجر داعبها ملمس قبلات النسيم حين حطّ ثغره على صفحاتها. هكذا يندسّ في فسيفساء أسلوبية عجيبة ممعنة في الاتساق الرائع للذي أودى به "تموقفه" الواضح، فراشة تذهب إلى اللهيب، معرّضا نفسه لعملية اغتيال، إنه غسان كنفاني الباعث لريحه في ثنايا الجملة: "حتما برقوق هذا الموسم سينضج بغناء الحبيبة سراب". ص85. وإذا كان للفلسطيني برقوقه المنتسب إلى نيسان كإشارة أليغورية إلى منعطف "القضية"، فإن برقوق إسماعيل غزالي يعتبر، هو الآخر رمزيا، في الإشارة التحريضية إلى متعة الفضاء وفق نزعة "هيدونية".. هو مربط كل النداءات الثاوية في الروح بكل ما أوتيت من استجابة لإغواء الحواسّ.. في الوقت الذي تعالجها أنفس الشخصيات بكامل الإخفاقات والانكسارات الوجودية.
   وإلى جانب ذلك، فإن إسماعيل غزالي ينحت جملته السردية بطعم بورخيّ أخّاذ، حينما تلتبس الهوية بين الحقيقة والوهم، وحين يعتم واقع الشخصية ليغدو مجرد شبح، إذ معلوم أن بورخيس فعل الشيء ذاته أثناء تسريد (أناه)، في إطار إلماعته الأوطوبيوغرافية المتخيّلة، أو إلماعته التخييل ـ ذاتية، سيّان. يتعلق الأمر هنا بشاب البيتزا الموزّع بين واقعية حادة ومحددة في تقديم وظيفة للغير؛ توصيل المطلوب ساخنا.. طريّا يكون له مفعول الغواية، وبين حالات انتشاء تصل إلى حدّ الدّوّار وهو يقترف بوحا بالعشق للمغنية (سراب).. لحظة من التوصيف في دوخة برزخية بين واقعية المكان ووهمه، وواقعية الشخصية وشبحيتها:
    "كلاهما، جسر الغرنق وعمارة مرصد العنقاء، يبدوان لي محض وهم، وقد تكون أنت مجرد شبح". ص84.
     يتمّ اختزال سراب، من قبل شاب البيتزا، في العشق الدائم للأشجار كتعويض نفسي يقلّل من فداحة الحرمان والتهميش والحمل على العاتق لتلك الأحلام المجهضة، ليغدو الإقرار مع رواية (ثلاثة أيام في كازا بلانكا) بأن للهامش أيضا نصيبه من النبض الإنساني الدافئ.. نصيبه من العشق والذهاب عبره ذوبانا إلى الأنثى المنتواة.. حيث المغنية (سراب) تلعب دور التقليل من فداحة الغياب.. وحيث الوضع بينهما غير متكافئ.. تعبّر التقنية المعتمدة في إدارة دفّة السرد عن وضع شاب البيتزا، الوضع المتواري بحكم "هيراركية" المجتمع، بواسطة التوظيف الذكي لتقنية الاسترجاع؛ ذلك أن السرد ينساب من الذاكرة، حالة توافق وضع العشق الذي حين يأكل أحشاءه، يهدي سراب المغنية دبّا قطبيا بطريقة فيها الانزواء المكرّس لحالة الغياب؛ لقد ترك الدّبّ عند الباب.. وحينما سألته سراب: "كيف عرفت أنني مولعة بالدّببة القطبية؟". ص133، كان إسماعيل غزالي يستغل الفرصة ليمنح القارئ دروسا في العشق كي يكون مرصّعا باللازورد كل مرة يكون أمام أنثى.
     وفي الوقت الذي تبدو فيه وضعية المرأة، في الرواية، منتهكة، فإنها تسعى إلى ارتداد كرامتها الممسوسة بكل أنواع الاحتراب الدونكيشوطي.. تترجم حركتها نوعا من الفضح السّرّيّ للمدينة؛ فزهيرة مثلا، الصحافية وعشيقة العميد، تكشف عن الجوانب المختلف حولها بشأن هذا الأخير، لتؤطّره بين المريب والمرتشي والمافيوزي وبين الرجل الصلب النزيه.. وعبرها نستطيع الاطّلاع على التقارير السّرّيّة عن المدينة، حازتها نساؤها. حكم ينبثق من صوت العميد مقررا أنه: "تحت ألسن العشيقات الجميلات، تنام مفاتيح أقفال كازا بلانكا". ص111. وحيث، هنا، لا يخفى تقاطع وجهة نظر العميد هذه مع وجهة نظر الجاسوس البريطاني بيتر ماكدونالد لعبد الرحمان منيف في رائعته: (سباق المسافات الطويلة)، حينما يقرّ في أطروحته التقريرية ـ التجسّسية بأن "من يملك الشرق يملك العالم، ومن يملك المرأة الشرقية يملك الشرق". وعليه، فمن يملك كازا بلانكا يملك أفريقيا، ومن يملك المرأة العاثرة في حظها هناك يملك كازا بلانكا.. فالعميد يعتمد بدرجة كبيرة في تحرّيّاته على استعمال الأسلوب المنتهك لكرامة المرأة بغية تسخيرها للحصول على الخبر، ويكفي النبش في ذاكرة البيضاء أمنيا لاستعادة شهقتها، ذات زمن ثمانيني من القرن الفائت، أمام فظاعة ووحشية المدعو (الحاج ثابت). معنى يمكن أن نذهب إليه أيضا وفق وجهة نظر الراوي الذي يعلّق على القول الناجز للعميد، مدعّما إيّاه ومنتصرا له، على اعتبار أنه: "في محاضر البوليس تسكن حقيقة الدار البيضاء. الحقيقة الكابوسية التي لا يمكن أن يطالها خيال الفيلم أو الرواية معا." ص 112. حكم منتزع من مونولوجات العميد بعد أن أوصل زهيرة إلى مكان كانت كل علاماته شاهدة على الإهمال وعلى اللا حياة.. حالة من هامش المدينة الممعن في مصادرته للتحضّر والتمدّن، وحيث المرأة وحدها تكون شاهدا على هذه الفظاعات الموهوبة مدنا باعتبارها أشباحا وغيلانا وكوابيس.. تنسجم مع الفضاءات التي يلجها رجال البوليس، كحالة العميد الذي يدخل "حانة السفينة" من بابها الخلفي بتواطؤ مع صاحبها: إدريس الكولومبي. إنما وعلى العكس من ذلك، فإن الشخصيات غير المشبوهة مثل فدوى فإنها تلج الحانة من بابها الأمامي، فدوى الطالبة في الفن والعمارة المختزلة حكايتها في البناية المهترئة لفندق لينكولن، التي ورّطتها في عشق الجماليات وفن المعمار وتاريخ الفن بطريقة جنونية، ذلك أن النظرة الأولى للبناية كانت قد خطفت القلب من شغافه وسكنته، لتكرّس حياتها للبناية دارسة ومتعقّبة للكتابة عنها، قادها إلى العثور على مخطوطة غريبة في الخردة والمتلاشيات ألهمتها الوعي الحاد بجماليات المساحة البصرية مستكنهة مجازاتها ولغاتها السرّيّة من مرجعية عالمية غميسة في تلك الروح الفانتازية التي تدمغ القصور العتيقة "بقصص الأشباح [...] أو حكاية الأرواح الشريرة (القوطية)... إلخ." كما في بريطانيا واسكتلاندا، ص154. تقول فدوى في هذا الصدد:
     "ألهمتني هذه المصادفة العجيبة، وضاعفت من علاقتي الغريبة بالنزل. أظنّها العتبة الشيطانية التي تخطّيتها، فوجدتني مولعة بالفن والعمارة والهندسة بقدرة قادر. تلك الخطوة الأولى قادتني خيوطها المبهمة، لكي أنحو منحى الإعجاب بجماليات فنادق البيضاء العتيقة، ولم يكن الإعجاب محصورا على العمارة كفنّ وكعلم، بل على الهندسة السوداء الخفيّة، ذات الحبكة البوليسية والغامضة لحكايات الفنادق الغامضة والمثيرة".  ص119.
      هي تقنية موظّفة لضخّ مزيد من العجائبية في الأعمال من سرفانتس في نزوعه الدونكيشوطي نحو الفروسية.. إلى عبد الرحيم حبيبي حيث النزوع نحو تحقيق الوثائق لكتابة ذاكرة الذات ملفّعة بالأدب الرّحلي، وثيقة ترتبط بأرشيف الفندق وتؤكد أن طاقم فيلم كازابلانكا ممثلين ومخرجا قد قضوا ليلة واحدة بالفندق بعد سنة من تمثيله باستوديوهات كاليفورنيا التي تصادف 1943، وحيث تدوينات من عبروا تؤكد على ذلك، إلى جنب العثور على مذكرة للفنانة الأمريكية جيرترود ستاين التي صادفت إقامتها بالفندق ذاته هذه الليلة الاستثنائية التي توأمت عشق البيضاء خيالا بالمدينة واقعيا، ذاكرة المكان سيكون لها المفعول السحري للتماهي مع جماليات الفيلم وستحفر عميقا في ذاكرة فدوى ووجدانها متذوّقة ومستمتعة، تساعدها على تطويق الحكاية الغريبة للأفريقي بيكيلا المقيم بما تبقّى من فندق لينكولن. عشق واهتمام يبدأ من الانتباه للذاكرة المشروخة للمكان والتفطّن إلى تخزينه لمرجعية هامة في مجال الفن وفي تاريخ المدينة، لينتهي أمام تتبّع الخيط الناظم الذي قاد بيكيلا إلى البيضاء وليكون المشترك بينهما هو عشق فيلم كازابلانكا، عشق بالنسبة لها ينهض على الخلفية الجمالية ـ العلمية والإنسانية، لكنه بالنسبة لبيكيلا ينهض على إرث من العنت والهروب والقتل الأبارتايدي للأب، لا لشيء إلا لأنه أدى بروعة بالغة أغنية الفيلم، أغنية انحفرت في مسمع بيكيلا فتعاضدت مع المدينة في تواطؤ ماكر ليقتلانه: بيكيلا قتلته الأغنية كما أبوه، أغنية "مع مرور الوقت"، حسب شهادة ساساندرا قيثارة الضياع التي تهبّ "مع مرور الوقت" أيضا، مضمّدة الجراح حسب المساحة المتروكة من قبل أوديسّا ذات جبروت حادّ في صناعة هندسة الوجود، وفي صناعة فراسخه وطوبوغرافياته، ذاك الجبروت المتفاقم، حيث الأغنية الضاغطة رقّة تحدّ من غلوائه، تنثره نقرة نقرة وبفجائعية حادة على العالم، أمام شاهدة القبر، على موت أكثر عبثية لشاب أفريقي لاذ إيواء بأطلال نزل لينكولن. ص 161. وفضلا عن ذلك فبيكيلا قتلته العنصرية، بيكيلا قتله تنفّج الإنسان الأبيض، بيكيلا قتلته المدينة بعجلات سيارة زليخة، لتصاب هي باللعنات مجتمعة وتتعقب رحلته بشكل معكوس، إنه العود الأبدي، عائدة إلى مهبط وجدانه حيث تشرّب عشق الأغنية على إيقاع الدم المهدور والمغدور للأب. ص 116. فأيّ تشابك هذا، وأيّ تداغل تهبه لنا الرواية، وكأن آلهة الأولمب هي التي تحبكه؟
    بذلك يكون وجود بيكيلا بالمغرب نتيجة الاستجابة لحلم، حين تصدح الأغنية في دمه ودماغه وقلبه بشكل هارموني، ص166. وليكون أيضا ذاك الوجود تجسيدا لمتخيّل فيلمي سببه الأغنية القاتلة.. هكذا سينتقل من الفيلم إلى الواقع.. من الجمال إلى المرارة.. من الهارمونية إلى السواد، إلى السخام.. منتشيا بصوته الشّجيّ والطروب توقّعه الزنوجة المنحدرة إلى الأعماق، إلى الأسفل حيث هناك ضحايا شبيهون به في الهايدس، حيث إله جهنم يقف متربّصا ومصحوبا بكلبه الشرس والحامل لكل أنواع الفتك في رؤوسه الثلاث، ضحايا ينعمون بغصة الألم من وجود مسرود استحال دما نفثه ثقب الجسد لعلع فيه الرصاص لتتوحّد كل الأزمنة لأجل الشهادة على هتك الإنسانية السوداء.. وضع سيهب بيكيلا كل أنواع الخيبات، أفظعها خيبة فقدان الأب تحت ذريعة تحرّشه بالسيدة، التهمة الواهية أمام طوفان الإحساس النبيل عشقا والذي يكنّه للزوجة.. وضع سيضطرّه إلى الهروب حاملا معه رمزيته في اكتشاف الأغنية ذاتها والمتسببة في مأساته الوجدانية الخاصة، أغنية تسكنه وتلزم الإقامة في حسّه كي يدفأ بها، ولسانه كي يلهج ويدندن بها نحو ذاك الأداء الفجائعي المستعيد للحظات الإبادة.. تماما كما يحمل معه الصفة المميّزة للجدّ من حيث اشتهاره بالعدو.. ليجد نفسه ذاك البيكيلا العاشق للأغنية ليمتدّ فيه أبوه، والعاشق للعدو ليمتدّ فيه جدّه.. وبما أن السيرتين مأساويتان معا في النظر إلى حالات الوجود وانعطافاته.. ستمتد المأساة إيّاها إلى بيكيلا ليدفع جسده الثمن، وحيث الدار البيضاء شاهدة على ذلك.. وكيفما كانت الحال فهو موت شامل ينضاف إلى الرصيد الرمزي للسلالة العتيدة في الشموخ والكبرياء والرقة الإنسانية.. سلالة بمثابة الأشجار التي تموت واقفة.. بيكيلا عظيم حين يوحّده سبب الموت بالفذّ: بارت، صريع كاميونيت أمام الكوليج دو فرانس، وحيث الأغنية المنقوعة في الحس المأساوي والذاهبة في اتّجاه فجائعية وجود له نصيبه الأوفر من التراجيديا ارتبطت نغمة حرّى بفيلم (كازابلانكا)..
   ولهذا، فإن رواية (ثلاثة أيام في كازا بلانكا) تقدّم تعريفات قلقة للمدينة، تعريفات محكمة ومستفزة للحواس وطاعنة في رصد سلبياتها: "كازا بلانكا مدينة أشباح، مدينة خراب عظيم، لا حياة في رمادها المستفحل، الحياة فيها مجرّد خيط سديم هزيل ومخجل." ص 146. تلك هي مدينة البيضاء؛ مدينة الخراب الجميل" بالتوصيف الساخر لأدونيس طباقا حينما يبشّر بالعصف الجميل وينعي الخراب الجميل في مدن العالم، لينزوي أكثر حاضنا سنبلة وقته وماسكا بكلتي يديه رأسه برج النار. ولعل ذلك ما ورد على لسان مروان المحترف للتصوير بحمل كاميرا (= كاميرمان)، كانت عينه وهي ترصد بشاعات المدينة تجلي حزنها وتبرزه في الوجوه، يقول:
    "أن تكون كاميرامانا" في كازابلانكا لا يعني أن تقبض على أطياف وجوهها اللامحدودة في تعاقب المرايا وحسب، بل أن تكشف الغبار (غبار الزمن) الذي يسكن تجاعيد وجوهها". ص 135.
    كم هي موجعة رواية (ثلاثة أيام في كازابلانكا)، في رصدها لعذابات الأفريقي، وفي كشفها عن القصص الحارقة لإنسانية مهدورة، حيث قصة ساساندرا الأكثر تهويلا وتراجيدية والمختزلة لإمبريالية من العنت، تجعل حصة العذاب الوجودي مجتمعة  من نصيبها لوحدها؛ فقدت الأم والأب.. ونتيجة للهروب كحالة مفروضة جعلتها تعيش واقعا ممعنا في جحيمه وسورياليته؛ خطف واغتصاب وختان.. لم يكن من بدّ إلا البحث عن ملاذ ومأوى بالاتجاه صوب شمال أفريقيا، نقطة عبور، كأنها اليمبوس للمرور إلى الفردوس، هكذا اختزل في وجدان الأفريقي أوروباويا.. إن ساساندرا تقدم تجسيدا حقيقيا لسيرة سيزيف المنقوعة في كل أشكال الإبادة والذبح التي صادفتها في رحلتها الفظيعة تلك، انتهت بها إلى البيضاء لتعيش مرة أخرى حظّها العاثر.. لم تسعفها إلا القيثارة في تذويب الشجن والبحث عن ضوء في غابة من عنت في غابة من إسمنت، واتّخاذها بصيص أمل في الآتي من خلال العلاقة التي تشرطها ببيكيلا، كانت قد انتسجت عشقا من خيوط أغنية "مع مرور الوقت".. لكن هيهات فتراجيدية الوجود تتعقّبها  لتخطفه منها بطريقة ممعنة في العبث. إن القيم التي تمنحها المدينة لا إنسانية، مدينة تهب كل ما هو سلبي من قتل وخيانة وعنف ولصوصية ودعارة واستبداد واستغلال نفوذ... إن من ينتسب إليها ويعتبرها أما له، هو من يجهل أصله، كحالة المسعف بالمستشفى: "ميّاس"، الذي عاش في ملجأ وفتّح عينيه على المدينة لم يكن أمامه من بدّ إلا اعتبارها أمّا. ص 209.
     ثم لماذا كانت الإقامة بكازابلانكا لا تتعدى ثلاثة أيام؟ هل هناك من إيحاء للغزية رقم ثلاثة في الرواية؟
   معلوم أن هذا العدد يتكرر أكثر من مرة في الرواية من خلال تحميله معنيين متناقضين؛ أولا في معناه المباشر والحرفي للإشارة إلى عمق المحيط، حيث مثلث بيرمودا الذي يهب الموت بسخاء لعابريه وبمختلف أشكاله، حقيقة تسعف في فهم ملابسات الوقت، أو هي المشجب لتعليق عجز العقل على الكشف عن الارتيابات كما هو أمر اختفاء السفينة الإنسانية التي كانت متوجّهة إلى غزة للتضامن وفكّ الحصار.. وثانيا في معناه الرمزي، حيث أضلاعه الثلاثة كانت مصدرا حقيقيا للشر في المدينة "المسرّدة" في رواية "ثلاثة أيام في كازابلانكا".. إذ في الوقت الذي تنتج فيه الموت يصبح لها بدورها نصيب منه؛ إنها مدينة بقدر ما تنتج القتل بقدر ما تتلقّاه. فضاء يصبح محطّ تجربة للقتل المزدوج في موضوعيته وفي ذاتيته، هكذا فإن أغلب الشخوص لقيت مصيرها الحتمي إلغاء في فضاء مشترك، كان مسرحا للموت العادل حينما اقتسموه  بالتساوي، ب (حانة السفينة) باعتبارها مسرحا لذلك. لقد قتل بالمكان الأندلسي صاحب الحانة ذاتها، وعدنان مدير (مؤسسة غاليرهات أطلنتيك)، ومراد صاحب شركة (ميدوزا للإنتاج).. لم يأتهم القتل من الخارج، وإنما تبادلوه فيما بينهم، للإشارة إلى أن الموت في كازا غير بخيل في عطائه، إنه ممنوح لكل الحيوات بعدالة تامة، بذلك كان أيضا من نصيب كمال الصيّاد، وأخيرا تذوّقه، بدوره، عميد الشرطة الشهير بالمكسيكي.. ص 275. ليرتفع العدد أعلى، سواء كان خماسيا أوسداسيا، فإنه لا يفلت من القدسي المجرور إلى التباس الثيولوجي.. ويشهد بقوة على أن زمن المدن هو زمن الإبادة والتصفيات لارتباطها بالأعمال المشبوهة، أعمال بعيدة عن الحس الإنساني النبيل ومنخرطة بقوة في الوحشية والذئبية، وناظمة لقول إداني أمام انهيار القيم الإنسانية النبيلة و إحلال، بدلا عنها، كل ما يرتبط بالانتقام والغدر والخيانة والأرواح التّوّاقة إلى الدم، تجعل سماء المدينة غفيرة بالرعب وتوّاقة إليه، إنها مدينة تهندس الموت والإبادة، وأيضا من حيث أن النهاية الموهوبة جماليا بالانشداد إلى روح الفن البصري، فإنها تكون مقصودة وليست اعتباطا من خلال الإشارة إلى أن بقاء لوحة (موت في صحراء أفريقية) وحيدة معلقة على جدار من جدران الحانة، هو إيحاء يجعل الموت يسافر من الفني إلى الواقعي، حين يستدعي الموت الجماعي لأبطال فيلم (صحراء كازابلانكا)، وينتشر بالجملة والتقسيط على أحياء الحانة الدائمين والذين لهم صلة بالتدليس والتلفيق وتكريس العبودية.. إنه الواقع بمقاس الخيال، أو لعنة هذا الأخير الناشر لإزميله تدميرا في الوقت.. حالة تذكّرنا بانبثاق المتخيل الإبداعي لبورخيس من الحلم.. أو حالة امتزاج الواقع في الحلم على غرار حلم شوانغ تسو بفراشة، فكانها وكانته.. لا انفصال ولا ازدواجية وإنما اندغام وتشابك في لوحة، عناصرها ممعنة في التناغم.. وكأن الأيام الثلاثة التي قضاها الروائي في كازا بلانكا، حيث التحديد الزمني الضاغط والقصير هو نكاية في شساعة المدينة وامتداداتها اللانهائية في المجال وفي جغرافيا البشر، حالة من نزع صفة الكوسموبوليس نحو التباس ممعن في السكيزوفرينية. إن أيامه هنا منذورة للفن قبل أن تشعّ في الواقع.. كان قد عاشها في الفيلم، كما في اللوحة والرواية، تماما كما أن بيكيلا وطاقم الفيلم عاشوا كازا بلانكا خيالا قبل أن يعيشوها واقعا، كأنها حياة مستهامة، محلوم بها، كانت مدعوّة بشكل إلزامي إلى تجسيدها في الواقع.. الأول له نصيبه من التأويل المتعدد ومن البوليسيمية، أما الثاني فيقتل الوعي ويصيبه بدوار يجعله ينخرط فيه سلوكا بكامل الغباء والبلادة التي تمنحها العبودية المعاصرة كانت هبة المدن/ الإماء.. والتي لا تحرر أبدا الإنسان بقدر ما تستعبده وترجعه إلى الدرجة الصفر في تحسس الوجود.. وضع يتطلب منا، بين الفينة والأخرى، أن نستعيد صيحة صلاح عبد الصبور المستنكرة للذّئبية المستشرية في الوجود، وحيث أن أعداء الحياة متربّصون في أي منعطف. إنها تلك الدعوة إلى تحسس الرأس كل مرة: "فتحسس رأسك، فتحسس رأسك".
    إن رواية إسماعيل غزالي (ثلاثة أيام في كازابلانكا) تدافع عن خطّ في المعرفة وفي الرؤية إلى الوجود، كما تدافع عن خطّ في الكتابة ذات الأسلوب المنقّح والممهور بالصنعة والاحتراف، عناصره متشابكة ومندغمة.. دالّ بمثابة الجذمور الفارع في جنونه المتعدد النموّ في مختلف الأكوان.
الإحالات:
1) إسماعيل غزالي: ثلاثة أيام في كازابلانكا، منشورات المتوسط، الطبعة الأولى 2019.
2) صدر لإسماعيل غزالي في الرواية:
A.    موسم صيد الزنجور، دار العين، ط1 2013.
B.    النهر يعضّ على ذيله، دار العين، ط1 2015.
C.    عزلة الثلج، دار العين، ط1 2018.
 كما صدر له في القصة القصيرة:
A.    عسل اللقالق، دار العين، ط1 2011. جائزة الطيب صالح.
B.    لعبة مفترق الطرق، منامات شجرة الفايكنغ، الحديقة اليابانية، دار العين، ط1 2012.
C.    غراب، غربان، غرابيب، دار العين، ط1، 2016.
3) معلوم أن رنّات الهواتف المحمولة تخترق السدوف وتزعج صمت العالم العاهل بالحكمة لترتاد كثيرا من الخواء والتباهي والإبادة والبلادة والانتهاك.. إسماعيل غزالي يحوّلها إلى ترجمة الفلسفة الخاصة في الحياة واختزالها، وإلى الرؤية إلى الوجود، هكذا فإن لكل شخصية رنّتها الصادرة عن هاتفها، سنحاول جرد بعض منها للتمثيل فقط:
A.    ـ موسيقى (نساء فرناندو بوتيرو): رنّة هاتف زهيرة. ص19.
B.    ـ موسيقى (تانغو كازابلانكا): رنّة هاتف فاسكا. ص20/21.
C.    ـ موسيقى (على بعد ثلاث خطوات من الهاوية): رنّة هاتف عمران. ص23.
D.    ـ موسيقى (امرأة تحت الجليد): رنّة هاتف عبير. ص141.
E.    ـ موسيقى (المسرنمون): رنّة هاتف المسعف ميّاس. ص143.
F.    ـ موسيقى (حصاة تلو حصاة): رنّة هاتف فوزية، ص185.

 

تعليق عبر الفيس بوك