كافكا - الانمساخ - لإمبريقية

يحيى السداوي | العراق

 

بدأ كافكا بهذه القصة من منتصفها، في 17 تشرين الأول وأنهاها في 6 كانون الثاني عام 1912، كما جاء برسالته إلى فيليس باور… إن بطل قصتي القصيرة قد مات منذ قليل... (1).

ولقد أوغل حينما جعل بطله گريگور يستيقظ من أحلامة المزعجة، وهو متحول إلى حشرة كبيرة لإضفاء صفة عدم النفع منه، وإزالة جميع الصفات البشرية، ليثبت أن گريگور كان يعامل كحشرة في عائلته، لما سببته عائلته من ضغط عليه في مواصلة العمل لسداد ديونها، دون ان تعير إي اهتمام لأحاسيسه ومشاعره كأنسان في محيط العمل والحياة، وهذا الشعور يجعل گريگور مغترباً عن ذاته وعائلته، مما أعطى له مسوغاً بالتحول السادي، وهو التغير من جنس الى آخر، شكلاً ومضموناً بسبب ظروف خارجية، حولته من هيئته وصورته الأصلية إلى هيئة وصورة أخرى تختلف عما كان عليه، نتيجةَ الكبت والضغط النفسي، الذي يغير نظرتنا تجاه أنفسنا وأجسامنا عند ويلكنسون (2)، وإنه غير قادر على مواصلة حياته بهذا الشكل من الصعوبة، التي تجعله كحيوان أو حشرة زائدة، ينتفع منه وهو لايستفاد من تعبه سوى سداد دين العائلة، بعد انهيار متجرهم ورضا والداه عنه، في حين إن والده السيد (سامسا) كان يدخر بعض المال، من عمله في المتجر قبل مدة من الزمن، ولم يعلم بطلنا بهذا الأمر إلا بعد تحوله، فاعتبرها طريقة لخداعه ووقوعه في مشاكل، كان في غنى عنها، لو إن والده أخرج ذلك المال، لتستفيد منه العائلة، وتسدد ديونها وأيضاً لتحصل على بعض اليسر والرفاهية، من دون الضغط على گريگور بمواصلة عمله بهذا الشكل القاسي، فقد كان يخرج صباحاً ليعمل كمندوب في شركة قابضة، متجولاً بين مكتبه والعلاقات الإنسانية المملة وأنحاء البلاد لاحقاً بمواعيد القطارات من مكان إلى آخر، ويرجع ليلاً وهو متعب لا تعرف الراحة مكانا في جسده، يتألم على سريره منهوكاً لا يستطيع النوم بسهوله من شدة التعب.

حول كافكا هذا الصراع النفسي العميق داخل گريگور، إلى صورة حشرة غير متوافقة مع طبائع الإنسان والواقع، جاءت بعد عقدة بطله النفسية، وعبوره من الواقع إلى ما واراء هذا الضغط، الذي سببته العائلة عليه بميتافيزيقية عالية، إلى حالة تكونت بصورة غير واقعية وغير مفهومة عقلاً، إلا إذا أخرجناها من الأمبريقية (3)، لأنه حوله من حسه البشري إلى كائن آخر، في تجربة أخرجته من إنسانيته بشكل لا منطقيي، في التعامل والتحليل ضمن تخيلات وانفعالات دقيقة اختلجت فيه، وكأنه ينظر إليه متحولاً إلى حشرة، دليل على سكوت گريگور وعدم صرخته، بوجه الظلم الذي وقع عليه وهو يُدعس من الجميع، و رَبُّ عمله الذي كان يوجه إليه العقوبات والإهانات مرة تلو الأخرى، مما أدى إلى إنفصال گريگور، نفسياً عن الواقع الذي يعيش فيه، لينفصل عنه جسدياً فيما بعد، فهو لم يفعل شيئاً، سوى أنه انتقل ذاتياً، من صورته في الشارع إنساناً إلى غرفته منقلباً لحشرة، كما حدث في بداية القصة.

إن قضية المَسخَ في المرويات الإسلامية والمسيحية واليهودية، من القضايا المسلم بها نصيّاً وتأريخياً، وخلاصتها أن الله - سبحانه وتعالى - يغضب على الإنسان، الذي يتعمد إن يتحداه في تشريع ما، فيحوله من إنسان إلى حيوان وهي لعنة تنتهي بالفناء، ليجعله عبرة لمجتمعه وأقرانه.

فكما إن الله تعالى هو ربّ الموجودات والكون الذي ليس له حدود، فإنّ سامسا ربُّ أسرته الصغيرة وقد تعامل مع ابنه گريگور بفوقية تراتبية هيراركية، بالنظرة الحديثة في علم التنظيم الهرمي (4). فمن خلال استخدام السلطة الأبوية ليُشعرَ ابنه أن علية الالتزام بما يمليه عليه هو، دون السؤال عن أحواله، وهذا ما تكشفه لنا القصة عندما تأخر بالخروج إلى العمل، كان هم سامسا الوحيد أن يذهب گريگور إلى العمل لجني المال، وهو لا يعلم أنه تحول إلى حشرة جراء هذا الضغط الكبير، والمهم في فهم قضية الانمساخ هو ما استقاه الكُتّاب، من الأساطير المدونة في الشعر والمسرح والروايات، مثل ڤيرچيل وهوراس وهما من الشعراء الاُغسطيين، الذين ظهرت أعمالهم قبل سنة 27 قبل الميلاد حتى سنة 14 بعد الميلاد في روما، والمستوحيان أعمالهما من الإلياذة الشهيرة لكاتبها هوميروس النابغ في أوآخر القرن العاشر قبل الميلاد (5)، وفيها أساطير نشأة الكون وأحوال الآلهة وخلق الإنسان، وقضايا كثيرة ومنها قضية الإنمساخ: الذي يعني ميتامورفوزس بالأصل الروماني هو التحول من حال إلى حال دون قيد أو شرط، ومنها إن كبير الآلهة زيوس أمر الآلهة الصغيرة بتحويل أول إنسان إلى حيوان، وقد ضمن أوڤيد هذه الأساطير في أعماله، التي أثرت في الأدب والفن بدول أوربا الغربية، كإنگلترا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا باختلاف الأزمنة، منذ فجر العصور الوسطى حتى بداية القرن التاسع عشر الميلادي (6)، حيث كانت الچيك تحت الانتداب الألماني آنذاك. لقد استلهم كافكا من كل هذه الأساطير. كيف يتحوّيل إنسان إلى مسخ من خلال لعنة ضغط وعدم اكتراث، تمارسها العائلة والمجتمع عليه. لتسبب سقوطاً تاماً للصفات البشرية وظهوراً لصفات كائن آخر، تنهي حياته بالموت كما حدث لگريگور الحشرة في نهاية قصّته.

..................................

الهوامش: -

(1) فرانز كافكا. الآثار الكاملة. دار الحصاد. سوريا. الجزء الأول. ترجمة إبراهيم وطفي لسنة 2003. صفحة 456.

(2) الضغط النفسي. دار المؤلف. الرياض. الطبعة الاولى 2013. غريغ ويكلنسون. ترجمة. زينب منعم. صفحة 5.

(3) الإمبريقية. هي فلسفة يونانية. تقوم على الحس البشري والتجريب معاً، لفهم الواقع الانساني .جون لوك. مقدمة قصيرة جداً. تأليف. جون دَن. ترجمة. فايقه جرجيس حنا. مؤسسة الهنداوي. مصر. الطبعة الأولى لسنة 2016. صفحة15.

(4) هيراركيلوجي. هو علم التنظيم الهرمي الذي وضع مبدأهُ. لورانس جونستن بيتر. في كتابه الساخر . مبدأ بيتر. لدراسة سلوكيات الأعضاء والتنضيمات الهرمية الهيراركية.

(5) هوميروس. الإلياذة. ترجمة. سليمان البستاني. مصر. دار كلمات عربية. لسنة2011. صفحة 20

(6) مسخ الكائنات. أوڤيد. الهيئة المصرية العامة للكتاب. ترجمة. دكتور ثروة عكاشة. لسنة 1992. التقديم من صفحة 5 الى 29.

تعليق عبر الفيس بوك