صلوات انتصار السّري القصيرة جداً

أ.د/ يوسف حطّيني أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

 

"ابتهالات جميلة على قيثارة السرد"

لم أقرأ، منذ سنوات، مجموعة تعادل في جمال معناها واكتمال مبناها المجموعة القصصيّة القصيرة جداً "صلاة في حضن الماء" لانتصار السّري، باستثناء مجموعتين إحداهما بعنوان "صولو" لمهنّد العزب، والأخرى بعنوان "سنديانة الغرباء" لرائدة عكاشة، إذ تدرك انتصار، كما يبدو جليّاً، طبيعة الفن الذي تكتب فيه، وتلتزم التزاماً صارماً بأركانه، وتنوّع في استثمار تقنياته، على نحو يليق بالقصة القصيرة جداً، ويرفع من شأنها، ويصلح مثالاً نجابه فيه أولئك الذين يتهمون هذا الفن بالتفاهة والسطحية.

ترصد انتصار السّري في هذه المجموعة الإنسان في لحظة مائزة: قد تكون لحظة قوة أو ضعف، وقد تكون لحظة فرح أو حزن، غير أنها لا ترصده إلا لتلك اللحظة؛ إدراكاً منها أنّ هذا الفن هو فن اختزال كلّ عناصر القص بامتياز، وإذا كان الزمن الواقعي القصير جداً ليس شرطاً لازماً لإنشاء قصة قصيرة جداً على مستوى عال من النجاح، فإن الالتزام به يجعل مهمة القاص أكثر جنوحاً نحو النجاح. وينطبق الأمر ذاته على المكان الجغرافي الذي تحرّكت فيه الشخصيات؛ إذ لم تتح القاصة للمؤثثات المكانية أن تشغل دوراً أكبر مما يحتمله هذا الفن، واكتفت بإشارات مكانية برقية تسمح للشخصيات بالتحرك والفعل الحكائي، وليس أكثر من ذلك.

في الفضاء الطباعي تقدّم القاصة كتابها في حلة أنيقة هادئة من خلال غلاف أزرق، لا لوحة فيه، بينما تعطيه خطوط الكتابة الزرق والسود والصفر حركة، كان من الممكن أن يفتقدها. وربما كان من المناسب أن يتضمّن الغلاف لوحة معبّرة، تفيد الكاتبة من دلالاتها؛ ذلك أنّ هذا الغلاف الهادئ لا يتوافق مع صلوات انتصار الصاخبة التي تميط اللثام عن أزمات الإنسان العربي على الصعيد الاجتماعي والوطني والإنساني.

فإذا انتقلنا إلى عتبات المجموعة وجدنا أنها تتضمّن إهداء "إليه"، ص5، هكذا بكلمة واحدة، مختصرة، تقتحم الكاتبة عتباتها؛ لتفيد من قدرة التكثيف على التعميم، وتشكر من ثمّ صديقين كان لهما علاقة بطباعة المجموعة على ما يبدو، كما تفيد من تلك العتبات؛ لتؤكّد أنّ أزمة الإنسان التي تعيشها في داخلها تجعل الكتابة ملاذها الأخير، وفقاً لما يقول ثيودور أدورنو: "بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن، تصبح الكتابة مكاناً له ليعيش فيه."، ص9، ثم تستعين بـ ليوسبرينو غارسيا؛ لتشير إلى أنّها تدرك أهمية الفن الذي تكتب فيه: "ستقوم القيامة يوم يكتشف الإله سر القصة القصيرة جدا". ، ص10، ثمّ تعطي الكاتبة عدداً من الصفحات من مجموعتها للدكتور الصديق مسلك ميمون الذي يقدّم قراءة فنية رائقة لقصصها بعنوان "ما قبل السّرد"، ص ص11ـ 18

* * * * *

تلتزم القاصةُ الحكايةَ، بوصفها مرتكزاً أساسياً لا تقوم القصة بدونه، وتنجح في  الكثرة الكاثرة من القصص في ان توجهها سهمياً نحو نهايتها التي تحمل مفارقة غالباً ما تكون متوهجة قادرة على خلق لحظة تنوير ذات دلالات صارخة. غير أنها في  عدد قليل من القصص تقدّم لوحات سردية، تنطلق من ثبات حالة الشخصية واستقرارها. لنقرأ قصة "بطل"، على سبيل المثال:

"قهوة الصباح مرة إذ لم أستسغ طعمها, ارتشفت مرارتها في ذلك المقهى المطل على شاطئ البحر,  هل تذكره؟

جلستُ على نفس المقعد البني, وذات الطاولة,  يومها قرأت عليك أولى محاولاتي في كتابة القصة.. البطل أعلن تمرده, لم ينصع لقـلمي,  أنت من روَّضه.

 اليوم يفتش عن مروّض..."، ص35.

هنا نجد أنفسنا أمام حالة مستقرة، والقصة القصيرة جدا، في رأيي ـ وهذا ليس رأياً ملزماً ـ نقيضُ الاستقرار، إنها تصنع التوتر، وتنطلق من لحظة أزمة الشخصية؛ لا لترصدها، بل لتزيدها توتراً. وثمة قصة أخرى تعتمد خيار اللوحة القصصية عنوانها "الكوخ القديم"، تصور حالة مستقرة، وتخسر فرصة التعبير عن تطوير أزمتها نحو لحظة تنوير أكثر إشعاعاً:

"ثمة كوخ في الغابة يستظل بجوفه رجل وامرأة, السماء ترسل أمطاراً غزيرة, صوت دقدقة الخشب يكسر أنين نار المدفئة العتيقة, يتدثران معطفاً كاكياً رثاً من بقايا الحرب العالمية الثانية, يتوسدان أحلاما بـلون حبر الماء, تقـفز الفئران مفزوعة من شقوق المعطف...ص47.

وندر أن تقع انتصار في فخ الإنشائية، غير أنّ وجود قصة مثل "بحيرة" يجعلنا لا نتردد في إبداء الرأي، في عثرات قليلة نراها هنا وهناك؛ لأنّ مثل هذا القلم البارع جدير، في رأينا، بالسير على صراط القصة القصيرة جداً؛ ليكون نموذجاً لكتّابها؛ ففي هذه القصة تسرق الرومانسية من الكاتبة وهج حكايتها، وتحولها إلى ظلال حكائية باهتة خلف لغة إنشائية جميلة تخفق في أن تقدّم المفارقة المنشودة:

"من مكانها القصي تأملت البحيرة ذلك البحر البعيد.. راقها اتساعه المبهر، فتمنت قربه بلهفة.. في غمرة ابتهاجها، أغمضت عينيها، فشعرت بنفسها في حضنه.. ثم ما لبث أن احتواها بين أمواجه، فتلاشت في كيانه بشكل كلي..."، ص71.

وتنجح القاصة نجاحاً مبهراً في امتحان التكثيف، وتقدّم قصصاً عميقة الدلالة، في المجالات الوطنية والاجتماعية والإنسانية، ويمكن بشكل خاص أن نشير لقصتي "ديكتاتور"، "وقيد" تمثيلاً لقدرتها المدهشة على ذلك التكثيف:

  • ارتدى بدلته العسكرية، تقلد أوسمته الذهبية، تأبط عكازه. خرج إلى الشارع يهشّ الذباب... ص46.
  • تمردت.. كسرت قيود القبيلة.. تنفست نسيم الحرية.. سمعت صوتاً يقول:

- بأي ذنبٍ وئدت...، ص34.

* * * * * *

تتعامل انتصار السّري في مجموعتها مع مجموعة من نماذج الشخصيات؛ لتفيد من دلالاتها الناجزة، وتوظف تلك الدلالات الفرعية في إسناد دلالة قصتها الأساسية؛ فنجد عندها نماذج من مثل الطاغية والمومس والأم ورجل الدين المنافق الذي تكثر نماذجه في السرد العربي. تقول  انتصار في قصة "مسبحة":

بداخل الحافلة.. لمحتها عيناه, لحيته تتدلى, مخضَّبة بالحناء, نظراته تسيل باتجاه كعبها, يده تلعب مستغفرة بحبات المسبحة, بغتة سقطت المسبحة, تدحرجت نحو قدميها, أسرعت يده تلتقطها, كفه تفتش عن المسبحة, تمسك بساقهــا, تصعد إلى أعلى وأعلى, و..., و...، 25.

كما يلفت النظر في شخصيات المجموعة القصصية أنها بلا أسماء، ومن الواضح أنّ مسحاً واسعاً لما ينشر من قصص قصيرة جداً سيقودنا إلى نتيجة مفادها أن عدم إطلاق أسماء على الشخصيات هو الشائع؛ إلا إذا كان الاسم ذا حمولة دلالية على نحو أيوب وجحا وروميو، وغيرها.

وإذا كان عدم تسمية الشخصيات قدر من أقدار القصة القصيرة جداً، فإن فعلية الجملة قدر آخر؛ إذ يتم توظيفها بشكل بارع من أجل تطور الحكاية، حيث يستطيع الفعل (والاسم ذو الطاقة الفعلية كاسم الفاعل واسم المفعول) أن يحرّك الحدث نحو نهايته بالسرعة المطلوبة. تقول القاصة في قصة "صيد":

"أوقفت سيارة أجرة, ألوان المكياج تلغي ملامح وجهها، أرسل لها السائق نظرة اشتهاء, اسبلت له عينيها.

سقط الذئب في مصيدة الدجاجة...، ص63.

* * * * *

وتتقن الكاتبة خلق المفارقة التي تُحدثُ أعمقَ الأثر في المتلقي، عبر صدمة تفاجئه ولا تفاجئ السرد، على نحو ما نجد في قصة "حالة" التي ترصد المرأة في لحظة الخيبة وانكسار الأحلام:

"دلفت بلهفة إلى محل بيع ألعاب الأطفال، وشرعت في اختيار العديد من اللعب.. كانت رغبتها شديدة في أن تشتري اللعب كلها.. عند دفع الحساب، تذكرت أنها عاقر!..، ص21.

ويمكن أن نشيد أيضاً بقدرة القاصة على الإفادة من الموروث الثقافي لبناء مفارقتها، على نحوما نجد في قصة "هذيان":

"سيجارته البلهاء

تمد لسانها

نحوي ساخرة, قائلة:

-         ها أنا ذا أعانق شفتيه..."، ص55.

فهذه القصة تحوّل المألوف الذي يراه الناس في كل مكان إلى غير مألوف؛ لتؤكّد مقولة الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطرقات"، ولتبنيَ عالماً مضاداً للموروث الذي كثيراً ما تغزّل بفنجان القهوة الذي لامس شفتي الحبيبة، وتقلب الدلالة إلى نقيضها، مستثمرة التراث، لا لتنسخه، بل لتحاوره وتضيف إليه.

غير أننا نستطيع أن نعتب على القاصة في تحويل المفارقة إلى نكتة في قصتين من قصصها، هما قصة "درجات"، وقصة "غسل" التي تقول فيها:

في خطبة الجمعة, أسهب الخـطـيب بالـموعـظة عـن غسـل الأمـوال, عـاد إلى مـنزله, جـمع ما كـنزتـه يــده مـن مال, شـرع بـغـسله داخل طـشـت...، ص26.

وأرجو من القاصة أن تنتبه إلى أنّ اعتماد البناء الهرمي، دون توجيهه حكائياً يتيح للمفارقة أن تنتج شيئاً يشبه الهايكو، وثمة نص وحيد هو "شريحة"، لا ينتمي إلى القصة القصيرة جداً، بل إلى الهايكو الذي يكشف سرّه في النهاية دفعة واحدة:

"تم رصدها عبر الأقمار الصناعية, فوق عشب حديقة منزلها، حدد موقعها.. تناشد السماء عودة غائبها،

امرأة عاشقة"، ص79.

* * * * *

تماماً مثلما تتعامل القاصة ببراعة مع أركان القصة القصيرة جداً في معظم قصصها؛ فإنها تفيد من تقنيات السرد المختلفة كالغرائبية والأحلام والألوان، وتفيد من التناص؛ لتجسيد الرؤية، وتعميق الدلالة؛ ففي قصة بعنوان "تابوت" تحضر الغرائبية إلى الحدّ الذي يجعل البطلة تقابل جثتها، وهي فكرة جميلة، ليتها لم تكررها في قصة "بحث"، ص64؛ لأن تكرار الإبداع ليس إبداعاً. تقول القاصة في قصتها اللافتة "تابوت":

"في صالة المغادرة، جلست ارتقب تأشيرة سفري إلى خارج الوطن.

صوت هرج وبكاء يكتسح المكان، بفضول استرقت النظر نحو وجه الجثة القادمة بجوف تابوت.

تفرست ملامحها.

كانت جثتي...، ص27.

وتبدو هذه القصة بالغة الدلالة في دعوتها إلى عدم هجرة الإنسان عن وطنه أو بيئته، وهي دعوة تتكرر في كثير من السرديات العربية، فالخروج يعني الموت في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، بينما يعني الضياع بالنسبة لحميدة التي غامرة بالخروج من "زقاق المدق" في رواية نجيب محفوظ الشهيرة.

وتوظف القصة بنجاح تقنية الحلم، دون أن تخلّ بأركان القصة من حكائية وتكثيف، مستثمرة فعلية الجملة، لتصل إلى مفارقتها، عبر وحدة موضوعية مركزة، فتقول في قصة "رسالة من كوكب اتش":

"أيقظني صراخ طفلي، جَزعِةً هرعت إلى غرفته، على أرضيتها كائن في هيئة امرأة. تنبش أحشاءه، تلوك كبده، تكرع دماءه.. انتزعته من بين مخالبها

بغتة استيقظت حقا.. كان جبيني يتصبب عرقا"، ص24.

كما توظف الألوان في قصة "لوحة" ص82، وفي قصة "وطني" التي تقول فيها:

"أطلقت في سمائه حمامة بيضاء؛ سقطت ملونة باللون الأحمر..."، ص101.

أمّا بالنسبة للتناص، فقد كانت قصصها غنية به أيّما غنى. ويمكن هنا أن نشير إلى قصتيْ "بعد منتصف الليل"، و"زخّات":

  • فيروز تشدو بـ"سكن الليل".. تصفحت أنامله كتاب قواعد العشق الأربعون، شرع في قراءته.. أصابه الخدر.. انسلت المؤلفة من بين السطور.

وبحبر شمس الدين التبريزي خطّا قاعدة العشق الواحد والأربعين. ص43.

  • على نغمات سيمفونية بتهوفن السابعة, تسكب السماء مطرها, قطرة مطر تشاغبني, ترقص في حلقة دائرية, تتسع حلقتها, عبر نافذتي. أمد يدا إليها, تشدني, تحتويني بين جدرانها.

هناك زوربا يفتح ذراعيه، يدعوني لمشاركته رقصته, زخات المطر تلهب جسدينا، يسمعني كلماتٍ ليست كالكلمات, أنسلخ من تلك القطرة أتساقط مطرًا أسود بين ثنايا حبر قصيدة بدر شاكر السيَّاب مطر مطر، ص64.

وربما كان حضور التناص في بعض نصوصها أكثر مما يحتمله السرد، أو أكثر مما يحتمله المتلقي الذي يتوه في القصتين السابقتين بين الثقافة الأدبية والموسيقية والأسطورية، مثلما تتزاحم أمامه دلالات آدم ونيوتن وأكيوبيد في قصة "كهف"، ص81، وهذا ما قد يولّد إرباكاً في قدرته على التلقي. كلنا نسعى طبعاً إلى رفع ثقافة المتلقي، ولكن لا بأس بإشارة إلى قصيدة هنا، ورواية أو أسطورة هناك، لخلق قارئ قادر على اقتحام لجة التناصات دون ارتباك أو تشويش.

ـ ـ ـ ـ ـ ــ ـ ـ ـ

انتصار السّري: صـــلاة في حضن الماء: مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، ط1، 2017.

تعليق عبر الفيس بوك