لنتفلسف

 

فاطمة الحارثية

"إذا لزم التفلسف فلنتفلسف، وإذا لم يلزم التفلسف فلنتفلسف لنثبت عدم اللزوم.. في الحالتين فالتفلسف قائم" (أرسطو)

 

قال لي أحدهم يوما "أنا أفهم وأعلم، ولا يوجد غيري في المحيط يفهم أو يفقه شيئا؛ لذلك أنا الأفضل". نظرتُ إليه لبعض الوقت وأنا في صراع داخلي كي لا يُغادرني شعور الشفقة عليه، غادرته وخيال نركسوس منحنيا على انعكاس وجهه يقتحم ذاكرتي. كم من هؤلاء حولنا يهيمنون على الكراسي المرتفعة؟ وكم استنساخ لنركسوس؟!

عندما تعتريني تلك الوخزات عند زاوية ضلعي الأيسر، أُدرك أنَّ ثمة حوارًا يحتاج إلى أن أُنصت إليه؛ فعجلة الاندهاش لا تتوقف، وفي طحن دائم مع التأمل والاستفهام. صراع لا ينتهي بين الممكن المحدود الذي نعيش فيه، وبين الآخر الكائن خارج نطاق الحدود.

لا أذكُر متى بدأت أسأل ولا سؤالي الأول، لكن بدأت أُدرك أنْ لا حدود للسؤال، ومن كل رحم سؤال يخرج مئات بل أسئلة لا نهاية لها.

عزيزي القارئ/ة...،

لا يَكمُن الخطأ في فعل اعتدت أن تراه أو مشهد لطفل ممزق الهوية والجسد لم يعد يقلب معدتك أو يثير الأسئلة الطبيعية لديك، ربما قد يكون السؤال الأول الآن كيف تمَّت فربكة هذا المشهد والبحث عمَّا يبرهن نظريتك. لا عجب من ذلك لأنه يشبه مشهد للمئات من أفلام هوليوود والعشرات من أشرطة ألعاب الفيديو.

لنتفلسف...،

متى بدأتْ البرمجة العقلية والنفسية لديك؟ متى توقفت مشاعرك؟ من سكن الضمير؟ لك أن تستمر في السؤال.

عزيزي المسؤول/ة...،

وضعت أولويات، رسمت أهدافا، اجتهدت بكل طاقتك وضحيت بالكثير لتصل إلى كرسيك المرتفع، ولتمتلك سلطة ممتعة ومالًا، ليشار إلى سيارتك الفارهة وتشخَص الأبصار على قَصْرِك، وليتهافت الناس لأخذ "سِيلفي" معك.. شهيَّة كلمات المديح والأبواب التي تُفتح لك ورغباتك المطاعة.

لنتفلسف...،

كم عمرك الان وانت على كرسيك الوثير؟ كم فقدت لتصل؟ كم من الزمن ستبقى عليه؟ هل اسمك سيقيد في تاريخ عمان؟ الأهم من ذلك بعد الغياب او التقاعد كم شخصا سيتذكرك؟ ربما ستقول الكثير او ليس مهما لكن لم تذق الامر لتحكم او تدركه.

عزيزي الطالب/ة...،

نعم، جيل الطيبين وليسوا انعكاسًا لكم ليكون ردكم: "وهل نحن الجيل الشرير؟"؛ لأنَّني أعتقد أنَّ البُعد اللغوي والقصد من "الطيبين" لم يَصِلكم، رُبما لاختلاف المناهج التعليمية بينكم وبين جيل الطيبين، وربما لضحالة الإعلام المرئي في عصركم، وقد يكون السبب الهاتف النقال الذي يستهلك جُلَّ وقتكم، في حين أن جيل الطيبين لم يمتلك إلا الكتاب يملأ به وقت فراغه.

ليست هناك أفضلية بين الأجيال، وليس لمربِّي -سواء كان أبا، أو أما، أو عما، أو خالا، أو مدرسا، كيفما كانت صفته- أن يذم سلوك شباب لم يجتهد أو يُخلص في تربيتهم أو حتى نصحهم، سُلوكهم غير السوي وصمة على جبين الجيل الذي سبقه؛ لأنه لم يُوصِل أمانة مكارم الأخلاق والقيم.

لنتفلسف...،

لماذا في ذمِّك لأبناء الآخرين يخرج ابنك كامل الأخلاق؟ لماذا عملك في خدمة الآخرين أفقدك ابنك بحقنة مخدرات؟ ماذا فعلت في منهج "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"؟ والأهم أيها الطالب: لماذا لا تسأل؟ لماذا لا تحاول الغوص في نص الفيلم والكاتب بدلًا من شكل البطل أو البطلة؟

لكلِّ شيء عُمر افتراضي، سيارتك، هاتفك، منزلك، عملك، قد تعلم المدة وقد لا تعلم، لكن نتفق أن لكل شيء نهاية؛ فنهاية عملك تُسمَّى "تقاعد". كم من العمر ستبقى مديرا أو مسؤولا أو رئيسا أو حتى وزيرا؟ لنفترض 20 عاما ربما أكثر أو اقل، تمارس سُلطتك على الآخرين، تؤثِر من تعتقد أنه جيد (حسب مفهومك)، وقد تُبعد من لم يرُق لك، وأمور كثيرة تحدث خلال تلك السنوات، حتى إنك تنسى أنك ستغادر كرسي سلطتك يوما.

قد تفعل ما تشاء: من ظلم، من طمع، من لهو، من حرام، من فتن، من تسلط على رقاب الناس.. فهل تُوزن أفعالك محدودة الزمن مقابل الأبدية؟ هل العشرون أو الثلاثون عاما على كرسي السلطة تساوي شيئا مقابل الخلود.. نعم، كُلنا خالدون لا أحد منا سيفنَى، الموت مرحلة وليس انعدامًا، مرحلة لننتقل إلى الأبدية، إلى عمر بلا نهاية أو افتراض، فهل يستحقُّ كرسي العَشرَة أو العشرِين عامًا التضحية بالخلود؟

-----------------

رسالة

حوارات الأوقات البسيطة مُلهِمة وجميلة كجمال أرواح الأحبَّة والأصدقاء، تبعثُ السكينة والراحة، كيف لا وهي من أهل السلام.. لنقرأ، ونسمع، ونعمل، ونعيش بعُمق من أجل خلود سعيد.