ثلاسيميا

لميس الزين | سوريا

 

لطالما استهجنت مصطلحَ مرضٍ خبيثٍ، لأتساءَل، وهل يوجدُ مرضٌ شريفٌ، أو أيّاً كانَ عكسَ تلك الصّفة المُرعِبة. فكلُّ مرضٍ برأيي هو خبيث، لكن بنسب متفاوتة، أما أشدُّها خبثاً فهو ذلك الضَّيف الثقيل الذي يحتلُّ جسداً يرفعُ فيه راياتِه السوداءَ، ويعلنُه مُستوطَنةً إلى ما شاءَ الله فيأبى الرَّحيل قائلاً: "إنّي باقٍ هنا، وما عليكم سوى الانصياع لوجودي المُعظّم. فما بالك إن كانَ ذلك الجسدُ جسدَ طفل؟.

كانَت امرأة ريفيّة قويّة البنيّة، تنمُّ ملامحُها عن قوّةِ عزيمةٍ وإصرار، تلقي عباراتٍ وشتائمَ مُضحِكةً، تلعنُ فيها أختَ الحياة. "وهل للحياةِ أخت؟" اسألُها بابتسامةٍ، فتجيبُ بوداعة الرّيف المُسالم، و دِعة الحقول الخضراء: "والله لا أدري إن كانَ لها أختٌ، لكنّي أعلمُ أنّها بنتُ كلب".

خلالَ جولة الأطباء الصباحيّة كانوا يطيلون الوقوف بجانب السّريرين الذين يضمّا ابنَها وابنتَها، وتقفُ هي تتوسّطهما. تلقي بدعاباتها الجريئة بصوتٍ جهوريّ أقربَ للرجولة منه للأنوثة، فتنطلقُ ضحكات المتدربين والمتدرّبات ما لم يكن الطبيب المُشرِف حاضراً.

 في إحدى المرات دعَت لإحداهُنَّ بزوجٍ "فحلٍ عندَه ثلاثٌ غيرك"، وحينَ ضحِكت الشابة مُستنكِرة، قالت: عجيبٌ أمركُنَّ يا بناتِ المدنِ، تخشينَ الضّرة، وكأنَّ عضوَ الرجلِ سينقصُ.

تلك النكات، على الرغم من جرأتها، إلا أنها تحمل جواز عبورها إلى قلبك لأنك تدركُ أنَّ خلفَها قلباً أبيضَ لا يعرفُ الخبثَ.

إلاّ أنّ نظرةً أعمق ستنبئ عن حزنٍ مُقيمٍ فيه، حزن خضَّبَه سوادُ الأيام القاسية التي تصبُّ جامَ غضبِها أحياناً على الشَّخص الخطأ. لا مسوغَ لها سوى قياسِ درجةِ صبرِه واحتمالِه. ترى لو أنَّ الله لم يجعلِ الحياةَ دارَ اختبار، هل كانت الحظوظ لتكونَ متساوية بينَ الجميع؟ وكيفَ سيكون شكلَ الحياة حينها؟. تلكَ الأسئلة الوجودية كانَت تطرح نفسها عليَّ، وأنا أستمعُ لها وأنقلُ بصري بين طفلَيها؛ رضيع بعمر عشرة أشهر، وَرِثَ وجهَ أمّه المستدير وبنيتها المتينة حتى تحسبَه بعمر سنتَين، على عكس البنت التي كانت نحيلة مصفرَّة، تبدو بحجم فتاة في العاشرة، وإن بدت على وجهها ملامحُ لا يمكنُ أن تُنسَب للطفولة بأيِّ حال، وكأنَّ المرض قد سلبَها زهرةَ الطفولة ويناعَة الشباب فتركَها عوداً يابساً لا برعمً فيه ولا ورقةً تدلُّ على نسغ الحياة.

- ما شاء الله جميل. حفظَه الله.

- ولِمَ يحفظه ليطولَ عذابه وعذابي ؟ أخذتُ أواسيها وأهونُ عليها. لكني تيقَّنت أنَّ تلك الروح المرحة لم تكن أكثر من قشرةٍ هشَّةٍ تخفي خلفَها جبالاً من القهر والمعاناة، قشرة نرتديها لنثبتَ لأنفسِنا أنَّنا بخير. وأيّ خير.

كم تعطينَها من العمر؟ سألتني سؤالَ المتيقّن من خطأ إجابتي. قلتُ: لا أدري ربَّما عشر. قالَت لي: عمرُها ثمانيةَ عشرَ عاماً. كم أنتَ مجرم أيها المرض. ما أقدرَك على استلاب الجمال والفرح، حتى سني العمر محوتَها من مفكّرة الجسد الفتيّ، وأحلته جسدَ عجوزٍ في العاشرة.

تابعت سردَ قصتها قائلة: تزوجت من ابن عمي، شاب مثل الجمل وها أنا أمامَك مثلَ البقرة. ابتسمْت للغتها التي استطاعت ببساطتها كسرَ كلِّ حواجزِ الألم. هذه هدية بكرنا، أسميناها هدية لأنَّها هدية رب العالمين. لم نكن نعلمُ أنَّها هديّة مضروبة. حرت بماذا أعلّقُ واكتفيتُ بتمتمة الاستغفار. وهل نملكُ غير التسليم أمامَ القضاء الذي ينقضُّ على أقدارنا فيحيلُها جحيماً قبل يوم الحساب.

بعد ولادتِها بأشهرٍ مرضَت، ذهبنا بها لمستوصف القرية، فطلب الحكيمُ السفرَ إلى حلب لعمل تحاليل لها. هناك قالوا لنا تحتاجُ لنقل دم. في البداية حسبنا أنَّ الأمر عارضٌ، ونقلُ الدم سيكونُ لمرةٍ واحدة. ثمَّ شرحَ لنا الأطباءُ أنَّه مرضٌ مزمنٌ ولا سبيلَ إلى شفائه. بكيت عليها كثيراً، ثم بكيتُ عليَّ، ثمَّ تمنَّيتُ الموتَ لإحدانا. لكنَّ العذابَ قد انكتبَ. بعد سنوات أنجبت عبد الرحمن، وأيضا سرعان ما تبين أنه يعاني من المرض نفسه، وبعده الحجي، اسمه محمود لكن غلبَ عليه لقب الحجّي لأنَّه يشبهُ جدَّه، والأخير نوري الذي أمامَك، هذا بالذات كنت مُتأمّلةً أنَّ العقابَ على الجرم الذي لم نفعلْه قد انتهى، فكما ترين ولدَ بصحّة جيدة وكلُّ من يراه يعطيه عمراً أكبرَ من عمره. سألت الله كثيراً، رجوتُ، توسَّلت وتأملت، لكن أمر الله واقعٌ لا محالةَ. عندما علمتُ منذُ شهرين أنَّه مثلُ أخوته فبكيتُ كما لم أفعل يومَ مات أبي ويومَ ماتت أمي، تمنَّيتُ الموتَ له ولأخوته أو لي. أربعةٌ يعانون من نفس المرض ويقولون لأنَّ زوجَك ابنُ عمك، سرقتْ من الوجع ضحكة، وهي تعلّق: كأني الوحيدة التي تزوجت المقرود ابن عمها.

أينَ الولدان الآخران؟ قالت : في البيت لا أستطيعُ أن آتي بهم جميعاً في يوم واحد. كلُّ اثنين بيوم. نقضي النهار كاملاً. وفي يوم آخرَ أحضرُ عبد الرحمن والحجّي. كلَّ أسبوعين أو ثلاثة نكرّر العملية. ولأنَّني تأخَّرتُ هذه المرة مرضَت هديّة كما ترَين، انشغلتُ بمرضِ أمّي وحينَ عدتُ رأيتُها صفراءَ كالخرقة المبلولة. قطعَ حديثَها قدومُ الطبيب المشرفُ تحفّه مجموعةٌ من الطلاب والطالبات بمعاطفهم البيضاء، ألقى نظرةً سريعةً على الطفل، وأخرى على إضبارته، ثمَّ بادرَ شارحاً: نرى هنا حالة نموذجية لأبوين حاملين للمورث الناقل للثلاسيميا ليصبحَ احتمال ظهوره بالأبناء راجحاً بنسبة خمس وسبعين بالمئة. كانَ من الممكِن خفضَها إلى خمسٍ وعشرين بالمئة لو اقتصرَ وجودُ المورث في أحد الأبوين، لذا نصرُّ على إجراء تحليل الهيموغلوبين الجنيني قبل الزواج. أضافَ بضعَ جملٍ طبّية، وانتقل مع طلاّبه إلى حالة أخرى.

واصلت نقط الدم تقاطرها من كيسيَن موصولَين إلى ذراعَي هديّة ونوري. فيما واصلَت نقاط البؤس تقاطرها في روح امرأةٍ كانت أشدَّ تعباً وبؤساً من أطفالها المرضى.

تعليق عبر الفيس بوك