د. عبدالله باحجاج
ما هي توصيات صندوق النقد الدولي بعد زيارته الأخيرة لبلادنا؟ وهل ستطبقها الحكومة؟ وإذا طبقتها، هل سيتحملها المجتمع؟ تساؤلات نطرحها استكمالا لمقالنا الأخير المنشور يوم الإثنين الماضي بعنوان "صندوق النقد الدولي.. ووفده الجديد في بلادنا"، فقد صدر بيان عن هذه الزيارة الخميس الماضي، تناقلته بعض وسائل الاتصال، يوضح نتائج زيارته، ويكشف ملامح الخمس سنوات المقبلة، وهي قاسية، وسينجم عنها آلالام اجتماعية إضافية كبيرة، وستمس العمق، فهل فعلا ستنفذ الحكومة توصياته الجديدة؟
في البداية، علينا أن نتساءل عن الوضع المالي لبلادنا، هل لا يزال حرجا كما لو كان في منتصف عام 2014 عندما هبطت أسعار النفط إلى أقل من 30 دولارًا للبرميل؟ ولماذا هذا التساؤل؟ لأنّ صندوق النقد يتعامل مع بلادنا، وكأنّها لم تغادر تلك المرحلة، وكأن أسعار النفط لم تقفز إلى 70 دولارًا للبرميل، ومتجاهلا كذلك الإيرادات المالية الجديدة الناجمة عن تطبيق توصياته القديمة كرفع الدعم عن الوقود وعن الخدمات الحكومية وفرض ضرائب ورسوم جديدة، الخ، قافزا كذلك فوق تلاقي هذه الإيرادات مع إيرادات ارتفاع أسعار النفط.
إذ يدعو إلى خطة جديدة تعمق المساس بنقاط اجتماعية حمراء اللون في استمرارية متصاعدة لتكريس الاختلال في العمق الاجتماعي، ربما تكون مستهدفة لذاتها، وهذا ما يستوجب التحذير منه، لأنّ توصياته القديمة والجديدة تركز على جيوب المواطنين كمصدر دخل للموازنة السنوية، فكم ستتحمل هذه المنطقة الاجتماعية؟ وإلى متى؟
وكل من يقرأ المنشور من بيان صندوق النقد الدولي، سينتابه فعلا القلق من الخطة الجديدة للصندوق، وسيتساءل بأعلى صوت، أين تذهب الإيرادات المالية الجديدة من منظومة الضرائب والرسوم ورفع الدعم التي تبنتها الحكومة منذ منتصف عام 2014؟ فخطة الصندوق الجديدة تحمل المجتمع من جديد ما لا لن يتحمله، ونزداد يقنيا بأن وراءها أبعد من استهداف مالي، وأنّ الأزمة المالية قد تجاوزناها فعلا، وأننا في مرحلة الاطمئنان المرتفعة، وتعزز هذه المرحلة باكتشافات النفط والغاز الضخمة التي تعلن منذ عام 2015، وآخرها ما كشفه وكيل النفط والغاز عن اكتشافات مبشرة على السواحل العمانية، وتحديدا في مسندم وجنوب جزيرة مصيرة، وقبلها الاكتشافات الضخمة كحقلي خزان ومبروك.
ففي المنشور من بيانه، دعا الصندوق الحكومة إلى خطة "طموحة" لضبط أوضاع المالية العامة في الأجل المتوسط، وهذا الأجل يحدد بخمس سنوات مقبلة، ومن ثمّ فإنّ ملامح هذا الأجل الزمني قد بات الآن مخيفا من منظورين: الأول الخطة التي أطلق عليها "طموحة" بمعنى بعيدة المدى في استهدافاتها العمق الاجتماعي، والثاني: التفاصيل التي سرت عن الخطة والتي تحدد ملامح هذا الطموح، لعل أبرزها، مطالبته الحكومة بالتعجيل في تطبيق ضريبة القيمة المضافة واتخاذ إجراءات ضبط الانفاق الحكومي المتنامي- على حد وصف البيان.
ويرى الصندوق أنّ هدف الخطة الأساسي ينبغي معالجة فاتورة الأجور والدعم وترشيد الاستثمارات العامة، وتعبئة المزيد من الإيرادات غير النفطية، ومن المعلوم أنّ هناك الحكومة تقوم بنوعين من أنواع الإنفاق، الأول الإنفاق الرأسمالي في القطاعات الأساسية مثل البنية الأساسية والتعليم والرعاية الصحية والمواصلات والاتصالات. والثاني هو الإنفاق الجاري، وهو المستهدف الآن من الصندوق، والمتمثل في الأجور والرواتب والمعاشات والمكافات وبرامج الضمان الاجتماعي والدعم الحكومي بأنواعه، وكما تلاحظون فإنّ الإنفاق الجاري يمس العمق الاجتماعي، وتستهدفه جل السياسات المالية والضريبية منذ منتصف عام 2014. فهل يريد صندوق النقد الدولي استهدافات جديدة داخل هذا العمق كخفض الرواتب أو وقف العلاوات السنوية بعد الجمود النسبي للترقيات؟ وإذا ما تركنا الصندوق يستمر في شطحاته الجنونية، فلن نستبعد أن يحاول الدفع باتجاه خفض الريال أو تعويمه، فهذه أجندة معروفة وتقليدية للصندوق، ينسخها على كل الدول التي تفتح له أبوابها المالية على مصاريعها.
فعلا، ينتابنا القلق المرتفع من تطبيق خطة الصندوق الجديدة، فهو ومعه البنك الدولي أداتين ماليتين هدفهما تحطيم القوة الناعمة لكل مجتمع، وهذه المؤامرة تتقاطع الآن مع صفقة القرن التي ستتم على أنقاض إفقار الشعوب، من هنا نتصدى لسياسات الصندوق والبنك الدوليين في بلادنا، داعين إلى عدم الإنصات إلى نصائحهما، ولكن يبدو أن دعوتنا لن تلقى حتى استماعًا من الفريق المالي بعدما دخل على ما يبدو في اتفاقية مع الصندوق، وبموجبها يحشر الصندوق نفسه في شؤوننا المالية الداخلية كل سنة عبر مراجعات سنوية.
الرهانات الآن على التدخلات السياسية لوقف جنون صندوق النقد الدولي في بلادنا، والتركيز على الإدارة الآمنة للثروات والإيرادات المالية، وتوظيفاتها في مساراتها المستحقة، بطرق عديدة، ذكرنا بعضها في مقالنا السابق، كشن حرب سياسية محكمة على الفساد وكافة أشكاله، وطرقه وأنواعه، لأنّه يستنزف الأموال، وكذلك الإسراع في برامج التنويع الاقتصادي، وهذا لن يتأتى إلا بإدارة جديدة تتولى مسؤولية ملف التنويع الاقتصادي.
ونجدد مثل هذه المطالب بعد ما اعترف صندوق النقد الدولي بوقوع بعض التجاوزات في الإنفاق، وقصور في أداء الإيرادات الضريبية، فهل هذا يعني فقدان موارد مالية؟ وهذا القصور على وجه الخصوص يفتح ملف مدى جاهزية وفاعلية تحصيل الإيرادات الضريبية القديمة والجديدة، كالضريبة الانتقائية، والمستقبلية كضريبة القيمة المضافة التي يطالب بالتعجيل بها الصندوق، لعهدنا الحديث بعصر الجبايات، مما نقع في إشكاليات فقدان الكثير من العوائد المالية.
من المؤكد أنّ النصائح الجديدة لصندوق النقد الدولي للحكومة مجحفة للمجتمع، ومرضية للرأسمالين ورجال الأعمال النافذين، لأنّها لن تمس الإنفاق الرأسمالي المتمثلة كما أشرنا في المشاريع المختلفة، وإنما تمس الإنفاق الجاري كالمرتبات والدعم والمكافات والترقيات.. إلخ وماذا يعني ذلك؟ باختصار يعني إفقار أفراد المجتمع.
هل هناك من ينكر أنّ الصندوق ذراع الغرب- مثل البنك الدولي-؟ وهل هناك من ينكر أنّ هاتين المؤسستين تضغطان على الدول لتبني سياسات التقشف، وإنّ نتائج هذه السياسات في الدول العربية قد أدت إلى إفقار الشعوب؟ وفي حالة التسليم بهذه الانكشافات التي يجاهر بها الكثير من الخبراء والمحللين، فإنّ تقاطعها من صفقة القرن مسألة بديهية، خاصة من منظور شغل المجتمعات بقضايا لقمة العيش، وإدخالها في انشغالات داخلية لن ترفع رأسها عاليا لقضايا قيمية وأخلاقية وقومية وإسلامية؛ أي القضاء على القوة الناعمة لهذه المجتمعات.
لذلك، تتجه تطلعاتنا إلى القرار السياسي لوقف علاقة بلادنا بهاتين المؤسستين، فبلادنا ولله الحمد بخير، ستكون على خير، شريطة أن تبتعد عن مؤسستي صندوق النقد والبنك الدوليين، والتجارب المعاصرة تفيد بأنّ كل دولة تبتعد عنهما وتبحث في خيارات أخرى، تسلم ماليتها وشعوبها ويزدهر اقتصادها، فعلينا دراسة مثل هذه التجارب المعاصرة، والاستفادة منها "طبعا" بعد إعادة بيتنا الداخلية من كل النواحي بما فيهم الفاعلين الذين يحتم وجودهم مسارنا الاقتصادي الجديد.