علي الرئيسي
دراسة الاقتصاد الصيني تُعطينا دروسا غنية في عملية الإصلاح الاقتصادي بصورة خاصة وفي إدارة الاقتصاد بشكل عام بعيدًا عن الأدلجة سواء فيما يدعى بالاقتصاد الموجه أو صنمية السوق. تمنحنا التجربة الصينية كثيراً من الدروس في كيفية إدارة الاقتصاد والإصلاح الاقتصادي، ونظرا للظروف التي تمر بها منطقتنا وإلى تعدد الأجندات والاجتهادات الخاصة بالإصلاح الاقتصادي والمدارس المختلفة التي تتجاذب هذه الأجندات، فمن المفيد دراسة التجربة الصينية مع الأخذ في الاعتبار خصوصية اقتصاديات الدول المصدرة للطاقة.
قبل أربعين عاماً وضع القادة الصينيون البلد على مسار الإصلاح الاقتصادي، هذا الإصلاح أدى إلى ما يشبه المعجزة الاقتصادية، بعد وفاة الجنرال ماو بسنتين وتولي دنغ تشاو بنغ الأمانة العامة للحزب الشيوعي ووضعه برنامج للإصلاح الاقتصادي. وبمضي أربعة عقود منذ ذلك التاريخ تحولت الصين إلى عملاق اقتصادي وأحدثت تحولات هائلة في الاقتصاد العالمي، وأضحت لاعبًا جيواستراتيجيا مهما.
الإصلاح الاقتصادي بدأ في الصين بالزراعة حيث تم تخفيف هيمنة الدولة على القطاع، بوضع آلية مسارين للأسعار، حيث أتاحت هذه السياسة منح حوافز السوق للفلاحين ومنحهم مزيداً من التحكم في الأرض، وقد أدى ذلك إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي، وتم لاحقاً توسيع مجال الإصلاحات الاقتصادية، حيث شملت الحوافز مجالات أخرى غير الزراعة، حيث تمَّ السماح بملكيات خاصة بما سمي بالمدن الصغيرة والقرى ومن ثمّ تمّ تطبيق تلك التجارب على المدن، كما تمَّ منح العديد من المؤسسات العامة إدارة ذاتية وتم تشجيعها لتصبح مؤسسات تجارية مستقلة، كما تمَّ تشجيع العديد من المحافظات لتصبح مناطق حرة اقتصادية، نمو هذه المناطق الصناعية الحرة أدى إلى اندماج الصين في السوق العالمية في مطلع عام ١٩٩٠.
كان الهدف الأساسي من هذه الإصلاحات هو توجيه الاقتصاد الصيني لاقتصاد السوق وانفتاح الصين على الخارج، وبينما ازدادت حصة الصين من التجارة العالمية وتزايد الاستثمار الخارجي، وبدأت مساهمة القطاع العام في الانكماش نسبياً، واصلت الحكومة قبضتها على إدارة الاقتصاد وتوجيهه. فإعادة الهيكلة الاقتصادية والتنويع الاقتصادي تم الدفع بهما من خلال مجموعة من السياسات الصناعية، فالمستثمرون الأجانب يسمح لهم بالاستثمار من خلال مشاريع مشتركة مع مؤسسات محلية وذلك لزيادة المدخلات الوطنية، كما أن سعر صرف التدفقات العالمية أيضًا ظل في معظم الحالات تحت السيطرة.
لم تتبع القيادة في الصين أي مدرسة من المدارس الاقتصادية المعروفة ولكن حاولت تطبيق ما أملاه عليها الواقع الصيني، فالإصلاح الاقتصادي لم يتبنَ النظرية الماركسية، كما تجنب دوغمائية السوق، وإنما اتبع ما أسماه داني رودرك "بالبراغماتية التجريبية"، أي مثل ما قال الرئيس دونغ لا يهم لون القط مادام يصيد الفئران.
هناك تساؤل يتكرر مرارا في الصحافة الغربية ماذا بعد للنموذج الصيني؟ صحيح أنَّ الصين لم تعد تنمو بنسب نمو ١٠بالمائة، كما كان الحال في التسعينات وبداية القرن الحالي، إلا أنها لا تزال تحقق معدلات نمو عالية، واقتصادها يتمتع بدينامية تفوق أي اقتصاد آخر في العالم، والنمو الحالي يتجاوز ٦ بالمائة يتجاوز نمو معظم البلدان المتوسطة الدخل، صحيح أن الشركات والمؤسسات الحكومية تعاني من مديونية عالية، وهناك تخوف من أزمة في النظام المالي الصيني، يزعم البعض أنّ الاقتصاد الصيني أصبح يعاني مما يعرفه الاقتصاديون "بمصيدة الدخل المتوسط" أي أن الدول النامية والتي تنمو بمعدلات نمو عالية، عندما يصل دخلها إلى مرحلة متوسطة يبدأ النمو تدريجياً بالانخفاض وتجد صعوبة في الانتقال إلى دول ذات دخل عالٍ. وهناك من يعتقد أنَّ انخفاض النمو الصيني بنسبة ٤٠ بالمائة قد يعزز من هذه الفرضية، غير أن ستيفن روش، يرد قائلاً بأنه لا يوجد ما يُسمى بنظرية مصيدة الدخل المتوسط، وليس كل تباطؤ في النمو متشابه، حيث إنَّ الناتج المحلي لكل بلد عبارة عن تجميع لكل القطاعات والأنشطة في الاقتصاد، وأن التحول في الإنتاج من قطاع اقتصادي إلى آخر ليس بالضرورة يعني عدم استمرارية في النمو، ببساطة يزعم بأن الإنتاج الصيني تحول من الكم إلى الكيف، أي تحول من القطاعات الصناعية ذات النمو المرتفع إلى قطاع الخدمات، ولذا لا يجب علينا التركيز فقط على انخفاض النمو في الناتج المحلي الإجمالي، وإنما يجب النظر إلى الإنتاجية، وأن الإنتاجية في الصين في حالة تحسن حيث بلغ معدل نسب نمو الإنتاجية السنوي حوالي ٣ بالمائة، ويضيف ستيفن روش أن زمن نمو الاقتصاد الصيني بنسب ١٠بالمائة سنويًا بات من الماضي، ولكن باستمرار نمو الإنتاجية بمعدلاتها الحالية فإن الاقتصاد الصيني سيواصل نموه بنسب معقولة.
الحكمة السائدة في العلوم الاجتماعية في الغرب، أن تحول الدول من متوسطي الدخل إلى دول ذات دخل عالٍ ولتلبية متطلبات الطبقة المتوسطة والتي لم يعد تأثير آيدولوجية الحزب الشيوعي مؤثرا عليها كالسابق، لابد للنظام من منح المزيد من الحريات الشخصية في المجتمع، كما يزعم "جوزيف ناي" البروفيسور في جامعة هارفرد، صاحب مصطلح "القوة الناعمة " وأحد المختصين بالشأن الصيني بأن على الصين التحول تدريجياً من هيمنة الحزب الشيوعي إلى مزيد من الانفتاح السياسي الداخلي وإلى فتح السوق للاستثمار الأجنبي دون رقابة حكومية خاصة وأن الصين تعاني حاليًا من شيخوخة قواها العاملة، وأن نموذج الماركسية الذي كان سائدا في زمن ماو تسي تونغ لم يعد صالحًا إذا أرادت الصين الالتحاق بالدول ذات الدخول العالية، لكن يبدو أن القيادة الصينية لا تتفق مع هذا الطرح فالخطوات الأخيرة للرئيس الصيني تبين أن الصين ستواصل السيطرة من خلال الحزب الشيوعي على المجتمع والاقتصاد الصيني.