د. عبدالله باحجاج
مَهْمَا كانتْ أسبابُ زيارة وفد صندوق النقد الدولي لبلادنا -روتينية أو بأجندة جديدة- فهى من المؤكَّد سيكون وراءها شرٌّ وليس خيرًا -من المنظور الاجتماعي- فنصائحُه مهما وصفتها وزارة المالية بأنها غير مُلزِمة لبلادنا، لكن سرعان ما تتبناها، وقد أصبحتْ هذه المؤسسة، ومعها البنك الدولي، اللذان تسيطر عليهما الدول الاستعمارية القديمة، مكشوفتين للرأي العام، ولن تنطلي على وعيه -أي الرأي العام- مهما تم التلاعُب بمُسميات زيارات وفودها.
فعِندما تصفُ زيارتها بأنها روتينية؛ فهى تعتقدُ أنها بذلك ستخترق الوعي الاجتماعي، وتمرِّر شرعية زيارتها، وحتى مُفردة روتينية، لها وقع على الوعي الاجتماعي سلبيٌّ جدًّا؛ فهى تعني زيارات طبيعية مُتتالية لمتابعة تنفيذ أجندتها، أو الضغط على تنفيذ أجندات لم تنفذ حتى الآن؛ لذلك تطلق على زياراتها روتينية.
فهاتان المؤسستان قد أصبح الكل يعلم سلبياتهما أكثر من إيجابياتهما، والأنظمة التي تحرَّرت منهما أصبحت تحملُ لواء التحذير من الانصياع لهما، وعندما تحرَّرت من قبضتها، نجحت في اللحاق بركب الدول الصاعدة، لن نكُون هنا ملزمين بتقديم نماذج من هذه الدول؛ فقد أصبحت معلومة كذلك لدى الرأي العام. ومن هنا، نتساءل عن أسباب زيارة هذا الوفد في هذا التوقيت الآن لبلادنا؟ وماهية التوصيات التي يُحاول فرضها على بلادنا من منظور الناصح الأمين لاستقرار أوضاعنا المالية؟
حاولنا البحث في أعماق هذه الزيارة، لكن يبدو أنَّنا لم نُجِد السباحة في المستويات التي كنا نطمح إليها، لكننا لو استحضرنا إصلاحاته المقترحَة لبلادنا خاصة، ولكل الدول العربية عامة، التي فتحتْ أبوابها لهاتين المؤسستين، سنجد أنَّ كل نصيحة إصلاحية تكون مبعثَ قلقٍ لدى الشعوب؛ لأنه سيترتب عليها المزيد من الآلام الاجتماعية، وتجربتنا حتى الآن مع هاتين المؤسستين نموذجًا.
والمتتبِّع لتاريخ العلاقة بين الحكومة وصندوق النقد والبنك الدوليين منذ منتصف العام 2014، سيُلاحظ أنَّ الحكومة نفَّذت جزءا كبيرا من أجندة الصندوق حتى الآن؛ فقد نصح الصندوق بتحرير أسعار الوقود، ففعلت الحكومة، وأصبحت هناك آلية للتسعير شهريًّا وفقا للأسعار العالمية، وقد نَصح الصُّندوق برفع رسوم الخدمات وزيادة نسبها ففعلت كذلك الحكومة، وقد نصح الصندوق بالضريبة الانتقالية، فتم اعتمادها مُؤخرا.. والقائمة طويلة من النصائح والموافقات الحكومية.
والآن، ماذا يُتوقع أن يلجأ إليه الآن صندوق النقد الدولي؟ بديهيًّا ضريبة القيمة المضافة، وهى ضريبة من نصائحه القديمة، لكنَّ الحكومة أجَّلتها بعد ضُغوطات داخلية رغم التسليم بها في نطاق دول مجلس التعاون الخليجي، لكن يبدو أنَّ زيارة الوفد الجديدة قد تستهدفها الآن، وهذا يعني أنَّ المرحلة المقبلة ستحمل آلامًا اجتماعية جديدة، ستكون فعلا فوق قُدرة الحمولة الطبيعية للمواطن.
ورُبَّما من البديهي كذلك أن تستهدف زيارة هذا الوفد حثَّ الحكومة على الإسراع في خصخصة ما تبقَّى لها من شركات، وعددها الآن أكثر من 60 شركة حكومية، بعضها ناجح بامتياز وأخرى فاشلة بامتياز، وربما يكون وراءها أيادٍ مُتعددة الجنسيات لسحب هذه الشركات من النفعية العامة إلى النفعية الخاصة؛ فمثل هذه النصائح تلتقِي مع أطماع أجندات خاصة محلية وعالمية، وما صندوق النقد والبنك الدوليين سوى أداتين من أدوات سحب ثروات الشعوب لصالح شركات عابرة للحدود بتواطؤ مع رأسماليات محلية، أنشأتها الرأسمالية العالمية لخدمة مصالحها في كل دولة.
ولا نعتقدُ أنَّ حل المشكل المالي لبلادنا يأتي أولا عن طريق الضرائب والرسوم، وإنما عن طريق مكافحة كل أشكال الفساد؛ فهى تستنزفُ أموالَ الدولة، ولو أُعلِنت الحرب على الفساد مع إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، فربما لن نلجأ إلى الضرائب والرسوم المشددة والقاسية اجتماعيا؛ لأننا سنوفر السيولة لتحقيق التوازن المالي لميزانية الدولة، وهذا لن يُقره الصندوق ولا البنك الدوليان، لأنه يتعارض مع أجندتهما في كل دولة، والتي أبرزها استهداف الطبقة الوسطى التي تعد صمام أمان داخل كل دولة.
ولن نذكِّر مجددا بخطورة الانصياع للنصائح الجديدة لصندوق النقد الدولي؛ فتطبيقها حتى الآن قد أحدث الفارق اجتماعيًّا، وبدأت تداعياته واضحة، ويمكن أن يجسِّد مآلاته وَضعُ سائق في وزارة حكومية، كان يستوجب عليه نقل مسؤول رفيع المستوى في الوزارة إلى المطار، وقد كُنت بصحبته -لعلاقة القربى بيننا- فراتبُه كسائق 430 ريالا، يدفع منها 200 ريال إيجار سكن في المعبيلة، وخيار الإيجار لجأ إليه بعد تحرير أسعار الوقود، ووجد نفسه يدفع ثمن الوقود فاتورة؛ فقرَّر الإيجار عِوَضا عن أن يذهب إلى ولايته يوميًّا، ولم يتبق له من راتبه سوى 230 ريالا، فهل تكفي لأسرة مكونة من ثلاثة أبناء وزوج وزوجة؟
وهذا الوضع الخاص بهذه الأسرة، يُمكن أن يُعمَّم بالنسبة والتناسب، وما لجوء بيع سيارات المواطنين المحجوزة نتيجة عدم مقدرتهم على دفع المخالفات المرورية إلا مشهد آخر من المشاهد التي تظهر فوق السطح فجأة، فكيف بنظيراتها تحت السطح؟ وهذا يعني أنَّ أعدادا كبيرة من المواطنين يعيشون الآن تحت ضغوطات المعيشة بسبب سياسة الضرائب والرسوم، وهذا في حد ذاته مؤشر خطير؛ لأننا نخشى من هذه الضغوطات على مستقبل الاستقرار في بلادنا.
ورغم أن هذه الضغوطات لا يُمكن للمرء أن يكتشفها على السيكولوجية الاجتماعية بسهولة؛ فطوال المسافة إلى المطار؛ كان هذا المواطن "السائق" لم تفارقه الابتسامة وهو يتحدث عن أوضاعه المؤلمة، فكيف نفسِّر ذلك؟ هل وصل بنا التداعِي السيكولوجي للضرائب والرسوم إلى الرقص فوق آلامنا الاجتماعية بمثل هذه الابتسامة؟!
كيف سيتمكَّن هذا المواطن بما تبقَّى له من راتبه من الإنفاق على أسرته عامة وعلى تلبية احتياجات أبنائه الذكور المتعددة، وفي الوقت نفسه دفع فواتير الماء والكهرباء المرتفعة واستحقاقات المعيشة الأساسية؟ رُبما لو لم يبتسم فوق آلامه المتعددة لأنهار في ثانية، وهذه حالة نموذجية تعرضنا لها عرضا.. فكيف ببقية الحالات؟
لذلك؛ نؤكِّد أهمية الحرب على الفساد أولا؛ فمنها ستوفِّر البلاد السيولة المطلوبة لتحقيق الاستقرار المالي، عِوَضا عن تفقير المجتمع بالضرائب والرسوم ورفع الدعم عن الخدمات المتعلقة به في ظلِّ استمرار استنزاف ثروات البلاد، وهذا مشهد متصور، ونتائجه تُفترض بسهولة؛ فالحذر كل الحذر من نصائح صندوق النقد والبنك الدوليين، والحذر نفسه من عدم سدِّ كل الثغرات التي تؤدي إلى أي شكل من أشكال الفساد، فكل دواعي ديمومة الأمن والاستقرار في بلادنا تدعو للحذر المزدوج من ذالكم الثنائي الخطير، وهذا لن يتأتَّى إلا عبر إصلاحات سياسية جديدة تراعي الثابت والمتحول، وتختار الفاعلين لهذه المرحلة بعناية فائقة.