بكاء الغربان


علي السباعي | العراق
صمت . مدن ملونة بالدم . أبليس . أغرق الكون بدم عصفور ، غنت السماء : نحن لا نعرف غير البكاء ، فأمطرت : دما !
***
غرفة منثورة ببقع دم داكنة ، الجدران ، السقف، الارض ، والقضبان أطبق عليها شحم أسود . تبرق عيون تكسر فوق حدقاتها وهج نيران … أزيز سياط … بريق سيوف … و … دماء …
دفعته أياد قوية، تفجر نعيب وحشي ، صرخ ((أنا بريء))! غرقت استغاثته في بحار النعيب، تدفقت موجاتها تصفع السكون. دهش . بصق تلاطمت موجات النعيب تغرق الدهشة، طغت، طفت البصقه كغيمة بيضاء في سماء رمادية . بصق!
شياطين !
***
صمت . عالم محاصر . هولاكو. رسم خارطة العالم بحوافر خيوله، هوت كفة الميزان، قعقعت القيود: نحن لا نعرف غير الخوف، فصنعنا: سجنا !!
***
قبضتان قويتان تلتقطان احدى العيون الباكية ، دوى نعيبها يمزق نسيج اللحظة الخرساء. الحاضر محاك من لعاب تخندق باشداق أضناها الصبر، صوت سكاكين تشحذ . تربص، سكون. صرخة… رعشة .. أجنحة تقاوم الذبح، بلع ريقه، ردد عاجزا: ((غربان)) !
***
الظلمة ملك هرم متكوم على عرشه ، ابليس ينفض عباءته من غبار الليل ، تدافعت صرخة حبيسة من تحت عباءته :-
-أما كفاكم هابيل ؟
***
مثقل بالتساؤلات كمدينة محاصرة بخنادق من نار ، بكاء الغربان ونعيبها المفجوع ، يخدشان ذاكرة الهدوء ، احتجاج أجنحة مذعورة ، خوف ، ترقب ، عيون يحدقان مفقوءه ، شياطين يحرقون مدن خضرا بنيران هولاكو ، تساءل بكراهية :-
-لماذا تذبحونها ؟
تزايد شحذ السكاكين ، الغربان تنعب كنساء نادبات يبكين جنازتهن الخاصة ، تربص ، دمى، مذابح، لعب بلاستيكية بأياد مدماة، من أقبية التاريخ تصرخ جماجم استفاقت مثقلة بحصار مدن مدفونة بتراب أرصفة الخديعة، بغبار حانات الطمع ، بنفايات مزابل الكراهية … جماجم … جماجم بلا عيون، وأخرى ترعى اسطبلات خيول الحقد، وغيرها شواهد لحروب وهمية ، غربة ، نواح ، عويل ، حشرجات جياد متعبة، والغربان … تصفق بأجنحتها وسط دوائر سود من رقاع مهلهلة كملابس شحاذين ، تسأل أيديهم قبل عيونهم أن : (( لماذا نذبح ؟)) .
***
جماجم أرصفة البطالة ، غفت فوق عتبات الدم ، تنتظر ، أندلاق الشمس من بطن السماء بعملية قيصرية .
***
تناقصت الغربان الحبيسة ، مذبوحة ، غراب أثر غراب ، طغت أصواتها الكسيرة كمعادن تصطك ببعضها ردد مهزوزا :-
-    اصرخي يا غربان !

صمت ، وظلمة ثقيلة كحكايات الموت ، تطاردنا بأجنحتها المعدنية العملاقة ، تخنق جسد الحلم ، صاح عاليا
-    حلقي فوق مدننا المحاصرة .. انعبي ..
أصوات معدنية تجرح صدأ مسامعنا ، لطمة قوية ، بصق بوجهه . أخرس !
جلي صدأ الاذن الشمعية ، ذاب ، أستمر يذوب ، سأل ، أستبد متغطرسا كالابدية ، تدافعت خيول شمعية صفراء ككلماتنا المربوطة في معالف الابجدية ، قال متوجعا :-
لا تصفعني … لا …
صفعة أخرى ، عربد مهددا :-
•    إذا صفعتموني صرت أمامكم مثل عبد الناصر !!!
صفعة ، صفعة ، ثم صفعة ، علا طنين كلماته ! الشمعية مثل طنين ذباب المزابل ، جأر :-
لا … لا … سيكلفكم ذلك غاليا … لا ….
تصاعد صوته ، كقدوم قطار بخاري ، ينفث دخانه رماديا ثقيلا ، مع جئرات حديدية ، هددهم قائلا :-
-    أنا من كتب عنه فكتور هيجو … أنا بائس .. أنا معدم … أنا …
توالت الصفعات كمتتالية عددية ، زعق بوجوههم : (( أنا بائس ! )) .
***
فوضى. طوت الارض سواترها، تعرى الليل مظهرا جسده موشوما بنجوم زرق لامعة . فوضى … بدأ الكلام … هش … أنه الجلاد !
***
دمى بأياد مدماة ، صفقت ، اضطربت مناقير الغربان مرتعبة ، تلونت عيونها بلون عباءة أبليس، أجنحتها السود كرايات سود تلوح في هواء مغتصب . ارتعبت . رفرفت نعبت . أمرته الدمى بأن : يرقص ! دهش تذكر ماضيه ، تصور حاله الان . رفض مزقت أصابع الدمى دشداشته السوداء ، رسمت حربة حاقدة كلمات غدرها ، صدره ممتلئ بالطعنات ، ندوب ، نهش أظافر ، صرخ بعصبية مشيرا الى صدره :-
غدر .. حرب .. خيانة … نساء . كلها تعلمت الكتابة فوق صدري .
نسى الكون ، رماه خلفه ، ترصد أنابيب الضوء الغباريه ، تتسلل ، كأفعى من عالم الثار نحو حاوية الرماد ، أجابهم بحزم :-
لن أرقص !
***
فوضى . ذبح أخر الغربان ، كبرت أفاعي النار ، صارت ، شلالات ضوئية نثرت الرماد فوق دم البؤس .

 

تعليق عبر الفيس بوك